أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الطيب آيت حمودة - وفاء امرأة















المزيد.....


وفاء امرأة


الطيب آيت حمودة

الحوار المتمدن-العدد: 4951 - 2015 / 10 / 10 - 02:34
المحور: الادب والفن
    


في زمن الهجرة نحو الشمال حزمت حقائبي ، وركبت الطائرة باتجاه ( لندرا ) للدراسة في إحدى جامعاتها ، فكان حلمي الكبير قد تحقق ولو على حساب هجر الأهل والصحب والخلان ، تابعت دراستي بانتظام فقد كان رصيدي من لغة شكسبير شحيحا ، سرعان ما نميته بفضل مخالطة أهل البلاد في الجامعة ، فهُنا من السهولة إتقان اللغة في بضعة أشهر ، فأصدقاء أمثالي من الهند وباكستان ومصر والعراق قد تبوأوا مكانا راقيا في البلاد بفضل تمكنهم اللغوي بلغة الأنجليز .
استمرت دراستي بتفوق ، وإن انشغلت قليلا بالعمل الساعي لتوفير المستلزم المالي من غير إفراط لأنني أعلم أنني ما جئت لهذا البلد الغريب سوى لأخذ العلم .
في أثناء ترددي على مكتبة الجامعة نسجت علاقة إصطحاب وصداقة مع ( دانا ) ذات العشرين ربيعا بقدها المياسي وشعرها الأشقر الطويل الذي ينسدل برشاقة على كتفيها ، وسرعان ما تحولت تلك الصحبة إلى ود تزايد ونمى ليصيح حبا جياشا لم أفهم لسره شيئا ، فتعددت اللقاءات واللطائف الكلامية ، فكنت دائما أسائل نفسي عن مستقبلي مع هذه الأنجليزية الشقراء ، هل أتزوجها ؟ وهل تقبل العيش معي في بلادي الجزائر ؟ ، وهل تتأثر بقيمي الإسلامية وتغدو مسلمة مثلي ، تساؤلات أرقتني لكنني الحديث معها يطمئنني دائما فهي شديدة الهيام كثيرة الإعجاب من أخلاقي المحافظة التي هي وليدة الإيمان و الذوق الجميل و الحس العذري ،
تمتّنت العلائق ونمت ... زرت أهل (دانا ) في منشستر بدعوة من أبيها ، فتعرفت على أسرة غاية في التفهم ، وإن كانوا يجهلون عن الجزائريين الشيء الكثير ...تحدثنا عن الدراسة و الثقافة ، والتاريخ ، وأحوال المجتمع بين (عالمهم وعالمنا ) ، فما وجدت سوى أسرة ذات رقي فكري و بساطة في التعامل قليل وجوده ، فقررت إستشارة أسرتي في الجزائر بالأمر والعزم .
°°° ما أن حل الصيف وانغلقت أبواب الجامعة حتى ركبت الطائرة رجوعا لبلدي وأهلي ، ففاتحت أمي أولا بالأمر ثم علم والدي ، فشجعاني على استكمال شطر ديني بالزواج من [ دانا ] فهاتفتها للقدوم إلى الجزائر للتعرف إلى أسرتي تمهيدا لخطبتها ، فاستجابت للدعوة مرفوقة بأبيها ، فاستقبلناهما في مطار هواري بومدين بحفاوة الجزائريين ، حيث انتقلنا جميعنا نحو دارنا في (الرغاية) ، وخصصنا لهما غرفة مستقلة ، وحاولنا التعرف عليهما ، فكنت أنا المترجم غاليا في إفهام المقاصد الكلامية ، وفي إحدى الأمسيات اتفقنا على مفاتحة والد (دانا ) بالزواج من ابنته ، المهم أنه وافق دون تردد بعد أن تعرف على أهلنا وعوائدنا وأخلاقنا وقيمنا فأقمنا عرسا إحتفاء بالحدث بحضور إمام قرأ خطبة النكاح، أو ما يسمى بالعقد الشرعي تلاه عرس الدخلة ، وبعد أسابيع من العطلة والترواح غادرت (دانا )الجزائر ومعها والدها باتجاه لندن ، وتأخرت أنا إلى غاية نهاية العطلة استمتاعا بالجو العائلي في هذا الجو الساخن المشبع برطوبة البحر .
°°° كان والدي منشغلا في تنظيف خزان المياه الموجود في المستودع السفلي ، فمن عادتنا أن ننظفه دوريا ونعقمه ( بالجير والجافيل ) لمحاربة آفة تلوث الماء بالجراثيم خلال ركودها الطويل ، فنظفنا وجيّرنا ، و انتظرنا جفافه لكي نملأه من جديد بالمياه التي تزورنا دوريا ، ففكرت في أمر تجفيفها بأكثر سرعة .. حتى يتسنى لي تعبئة الخزان بالمياه قبل غلقها ونقصها ، فصعدت إلى الأعلى فاستقدمت معي قارورة غاز البوتان ومعها موقد لتشغيله داخل الخزان لتجفيفه بأقصى سرعة ممكنة ....فهمَّ والدي بالدخوب فنهرته ودخلت مكانه ، نزّلت الموقد ووضعته داخل الخزان ذو الفتحة الوحيدة ،وتركت القارورة خارجا مع توصيل بينهما بأنبوب مطاطي مرن ، فأمرت والدي بفتح قاروة الغاز ليتسنى لي إشعال الموقد داخل الخزان ، فأشعلته بصعوبة لنقص الأكسوجين الذي يساعد على الإحتراق ، المهم انني أفلحت وقد تعمدت ترك الموقد مشتعلا وصعدت نحو الأعلى في انتظار استكمال التجفيف ، صعدت نحو الطابق العلوي للإستراحة وعدت بعد ساعة لتفقد الموقد ، فوجدته قد انطفأ .... فنزلت لإشعاله من جديد ...دون أن أنتبه لأمر كثافة الغازات داخل الخزان .... ، فما أن اشعلت ثقاب الكبريت حتى وقع انفجار مصحوب بلهب صعقت لهوله بعد أن أحاطت بجسمي الشبه عار نار لاهبة !، وما صعدت خارجا إلى بشق الأنفس و ألسنة اللهب تلاحقني ... فشعرت بتمزق في جلدي و احتراق في فروة رأسي ،والتصاق ما لبسته بجلدي .... انطرحت على الأرض كسير الجناح فاقدا للوعي .. فسارع والدي الخطى فتلقفني .... و قادني بخطى وئيدة إلى خارج المرأب وقد عاين حجم الحريق الذي ألهب جسمي داخل الخزان وأنا أحاول الخروج منه ، فأنا في حالة هستيريا وجزع كبيرين لا يعلمهما إلا الله ، وزاد حزني بعد رؤية أمي مهرولة نحوي بصياح وبكاء لهول ما شاهدته من حالي ، مصحوبة بنظرات أبي الكئيبة نحوي، والتي صاحبها دمع تلألأ فوق عينية إشفاقا على حالي ، فهاتفَ أخي لحملي على جناح السرعة لأقرب مستشفى .
دخلت في شبه غيبوبة وأنا محمول بين ذراعي والدي (بوجمعة ) وأخي (محمد ) ، وما أدخلوني في السيارة إلا بشق النفس وأنا أصرخ ملء نفسي من ألم الحروق التي أصابت جل جسمي من فروة الرأس إلى أخمص القدمين .
فوصلنا مستشفى (الرويبة ) ، بعد فحصي ومعاينة نسبة الأعطاب تبين للفريق الطبي بأن إمكانتهم في هذا المشفى لا تسمح بعلاجي ، فوجهوني نحو مستشفى ( الدويرة ) المتخصص بالحروق على متن سيارة إسعاف ...الذي وصلناه بصعوبة أمام زحمة المرور رغم إطلاق أبواق التنبيه ، وما وصلنا ذلك المستشفى إلا بشق النفس .
بعد معاينة حالتي التي كانت خطيرة ، وُجّهت إلى جناح العمليات ، فجردوني من لباسي و بدأ الفريق الطبي في تنظيف جسمي كله فوجدوا حروقا وندوبا متفاوتة العمق والسمك وبدرجات خطورة متفاوتة العطب ، وأكثر الضرر كان على مستوى الساقين و الأوراك المتآكلة و ندوب أصابت وجهي واحتراق كلي لشعر رأسي ، فنظفوا قدر استطاعتهم جسدي كله بعد تقطيع اللحم الفاسد المتقيح الصديد ، و أطلوا جميع جسمي بمراهم ، ولفوني في لفائف قطنية محكمة الربط ، ولم يتركوا سوى فتحات حول الفم والأنف والعينين .
فالمنظر عصيب لا أتمناه لغيري ، و أرقودوني في حجرة منفصلة تحت رقابة ورعاية أخي محمد .
استمر حالي التعيس في هذا المستشفى وأنا طريح الفراش ، أقتات من قنينات السيروم و أطعم بصعوبة بواسطة أنبوبة توضع في فمي ، فأنفاسي بطيئة تنذر بنهاية أجلي ، فقد فقدت الأمل في الحياة ، وسئمت من رؤية نظرات الإشفاق تحوم حولي ، وتذكرت زوجتي ( دانا ) الأنجليزية كيف سيكون موقفها وأنا في هذه الحالة البائسة التي قدرها الله لي .

بعد أيام هاتف والدي (دانا ) مخبرا إياها بأني مصاب بوعكة صحية تستلزم حضورها لرؤيتي ، فهو لم يُرد إفجاعها بما أصابني ، وحضرت ( دانا ) على جنح التسرع فاستقبلها أخي في المطار فأخذوها للبيت لإفهامها بأحوالي الصحية حتى لا تصاب بنكسة مفاجئة من هول ما تسمع وترى ، فقيل لها بأنني مصاب بحروق بسيطة ، سنأخذك لمشاهدة زوجك في المستشفى ، وحاولي أن تكوني متماسكة شجاعة حتى لا تؤثري على نفسيته المنهارة .... فدخلت ( دانا ) بقامتها الفارهة حيث أنا موجود بمفردها ، فتقدمت نحوي بخطى وئيدة وهي تنظر لي بنظرات غريبة لا أفهم سرها ، فتَحسست جسمي بليونة وتراجعت خلفا ودموعها تنهال على وجنتيها ، فهو منظر تراجيدي فريد ، وما أن خَرجت بعيدا حتى أجهشت بالبكاء مستفسرة أهلي عن أسباب الحادثة والحادث .
عادت ثانية للإستفسار عن حالي تدقيقا ، واحتظنتني مشجعة لي على صبري على هذا المصاب ، فقلتُ لها أنت ترين يا ( دانا ) حالي الميؤس من شفائه ، فواجبي يدعوني إلى [ الإنفصال عنك ] لتعيشي حريتك ، فأنا محكوم علي بالموت البطيء ، فأجهشت ثانية بالبكاء وقالت بأنها تزوجتني سليم البنية صحيح الجسم ، وهي راضية بالتبدلات التي وقعت فيما بعد ، لأنها من قضاء الله وقدره .
فهي قد اعتذرت لأهلي عن حسن صنعهم بي ووقوفهم جانبي ، وأخبرتني بأنها عائدة لأنجلترا لتسوية وضعية عملها لتعود ثانية ، وعادت فعلا بعطلة طويلة الأمد لتكون رفيقة لي في مشوار مرضي العصيب للتكفل بي كلية .

°°° فعلاجي في مستشفى ( دويرة ) كان شاقا ومكلفا ،و لأن بقائي في المستشفى لم يكن مريحا ، يتم نقلي في بداية الأمر على متن سيارة إسعاف خاصة ندفع ثمنها مرتين كل أسبوع ب عشرة ألاف دينار جزائري في كل مرة ، وعندما تحسنت ظروفي ، يتم نقلي لإجراء الفحوصات والعلاج الدوري على متن سيارة أخي ، واستمر العلاج شهورا عديدة دون تحسن يذكر ، فقال الطبيب المعالج لوالدي بأن حالة ( هشام ) ميئوس منها ، وبأن الكثير ممن أصيبوا بحروق أمثالي أهملوا في المستشفى دون عناية من أهاليهم وفقدوا الحياة ، فنحن بإمكاناتنا لا نستطيع فعل أكثر مما فعلنا ، فإن كانت لكم إمكانات فانقلوه إلى الخارج لإستكمال العلاج ،
فقررت زوجتي ( دانا ) القيام بإجراءات نقلي للعلاج في لندن تحت كفالتها الخاصة ، فتعاونت مع عائلتي في شراء بذلتين لي من إسبانبا مصنوعتين خصيصا لأمثال حالتي وبسعر غالي الثمن ،
°°°أنا الآن في لندن أتلقى علاجي بانتظام تحت رعاية زوجتي ( دانا ) ، وحالتي في تحسن كبير ، فالجراحات التجميلية قائمة لتحسين صورتي ، بزرع قطع اللحم المبتورة من جسدي في الأماكن المتضررة من وجهي ، فالعملية طويلة وشاقة ، ومن الصعب الرجوع إلى صورتي الأولى ، لكن تشجيعات زوجتي ورضاها بوضعي شيء مطمئن يبعث على التفاؤل ، أقول هذا وأنا مقتنع بأن الحب و التضحية ، وحب الخير ، قيم انسانية عليا بلا لون ولا دين ولا جنس .
أروي هذه القصة الواقعية وأنا مندهش من وفاء الزوجة الأنجليزية لزوجها الجزائري هشام ، فقد برهنت بفعلها وصنيعها بأن الوفاء الزوجي أخلاق وممارسة ووفاء .



#الطيب_آيت_حمودة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا (يسعد ربراب) فقط ؟
- كسر المفاصل بين [السعيد ] وبقايا [ توفيق ] .
- شياطين [ منى] المنتقمة !
- حقوق الإنسان .. من حراميها إلى حاميها ؟! .
- الأقدام السُّود ... يعُودون هذا الصّيف [ج1]
- الإنسداد الهواياتي في الجزائر.
- الفيلم الإيراني (محمد رسول الله ) المواقف والإنطباعات
- موسم الهجرة نحو الشمال وليس للجوار .
- حول هوية الشمال الإفريقي [1]
- هوية وطن ، أم هوية لغة ؟
- الحيران بين البخاري والقرآن .
- هل السُّنة وحي كالقرآن ؟ [ج1]
- هل السُّنة وحي كالقرآن ؟ [ج2]
- هل السُّنة وحي كالقرآن ؟ [ج3]
- المستشرقون و الإساءة للقرآن .
- آية الرجم التي أكلها العنز ؟!
- الصدام بين الإسلام والغرب [2]
- الصدام بين الإسلام والغرب [1]
- كيف الرد على المسيئين لديننا ونبينا ؟ .
- بأي ذنب سيُعدم ( ولد امخيطير ) .


المزيد.....




- انتحرت أم قتلت؟.. حسين فهمي يتحدث عن موت سعاد حسني المفاجئ
- حسن جلبي.. تألق فن الخط العربي في العصر الحديث
- -كنت مغفلا-.. فنان مصري شهير يحكي تجربته مع جماعة الإخوان (ف ...
- وزير الثقافة الصربي يكشف تفاصيل تعرضه اعتداء
- تفاصيل جديدة تكشف سبب وفاة الممثل جين هاكمان وزوجته.. مرض نا ...
- الناقد المغربي سعيد الفلاق: الحضارة الأندلسية فردوس لا تنتهي ...
- مسلسل كويتي يثير الجدل بعد مشهد ساخر من النجم السوري جورج وس ...
- -ظل بجانب جثة زوجته لأسبوع دون أن يدرك-.. كشف سبب وفاة النجم ...
- لماذا تشعر إسرائيل بالتهديد من الفيلم الفائز بالأوسكار؟
- “عامر تورط في كشتة عائـلية” روتانا خليجية شباب البومب 13 الح ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الطيب آيت حمودة - وفاء امرأة