|
بشر يُحاكمون الحيوانات والحشرات (2)
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 4617 - 2014 / 10 / 28 - 23:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إذا كانت الشعوب القديمة (السابقة على الديانة العبرية بفروعها الثلاثة) لها بعض العذر عندما آمنتْ بالكثير من الخرافات ، واختلطتْ الخرافات بالأساطير، مما يعنى – فى نهاية الأمر- البدايات الأولى لما تمّ التعارف عليه فى العصر الحديث تحت مصطلح الميتافيزيقا ، فإنّ بعض الشعوب تمسّكتْ بالخرافات ، حتى القرن الثامن عشر بعد ميلاد المسيح ، لدرجة تخصيص محاكم لمحاكمة الحيوانات والحشرات ، وكان من بين تلك المحاكمات (كما ذكر تفاصيلها العالم جيمس فريزر- فى كتابه الفولكلور فى العهد القديم- ج3- ترجمة د. نبيلة إبراهيم- هيئة قصور الثقافة- عام 98) دعوى قضائية ضد النمل (فى البرازيل) لأنّ النمل كان يحفر بشدة أسفل أساس الأديرة ويقوّض قبورها ، مما تسبّبَ فى إضعاف حوائط الدير الذى رفع الدعوى . وجاء فى عريضة الدعوى أنّ النمل ((لم يكتف بتقويض البناء (المُـقدس) وإنما قام بالسطو على المخازن ، وسرق الدقيق المُـخصص للرهبان)) فأقاموا الدعوى ضد (اخوانهم النمل) أمام محكمة العناية الإلهية مع طلب تعيين الإدعاء والدفاع ((وينبغى على الأسقف أنْ يستمع (باسم العدالة العليا إلى الدعوى وأنْ يُصدر الحكم فيها)) أعدّ الإدعاء التهمة الموجّهة ضد النمل . فأوضح أنّ الرهبان الدينيين يعيشون على تبرعات الجمهور. وأنهم يجمعون العطايا من المؤمنين بجهد شاق ، فى حين أنّ النمل ((يُعارض بأخلاقه وسلوكه تعاليم الرسل . ومن ثمّ فقد كان القديس فرنسيس (مؤسس الجمعية الدينية) ينظر إلى النمل بعين الفزع لأنه يعيش على السلب والاحتيال ، بل إنه يقوّض بعنف دعائم البيت المقدس على مسمع من عملائه الرهبان ، وبناءً عليه فقد صدر الحكم من المجلس (الكنسى) غيابيًا على المدعى عليهم (النمل) بأقصى عقوبات القانون : إما بالقضاء عليهم بتعريضهم لوباء الطاعون أو بإغراقهم فى الطوفان أو- على الأقل – إبعادهم عن الحى القابع فيه الدير. وعلى المحكمة أنْ تأخذ بعين الاعتبار تلك الأسباب والحكم لصالح رهبان الدير. ثم يبدأ الفصل الثانى من تلك المحاكمة (التى لم تخطر على بال كافكا أو مؤلفى مسرح اللا معقول) بدفاع ممثل النمل الذى قال أنّ الرب منح النمل نعمة الحياة ، والنمل مُـلزم بناءً على قانون الطبيعة أنْ يُحافظ عليها بغريزته الطبيعية. وهو بذلك يخدم العناية الإلهية. ثم أشار الدفاع إلى فقرات من الكتابات المُـقدسة التى وردتْ عن النبى أرمياء والراهب (إيسالون) ومن كتابات (بلينى) التى تثبتْ أنّ النمل يعمل بكد أكثر من الرهبان ، حيث أنّ الأحمال التى يرفعونها أكبر من أجسامهم بكثير. وحيث أنّ شجاعتهم تفوق قوتهم ، كما تثبت أنّ الناس فى نظر الرب ليسوا سوى ديدان ، وأنّ النمل كان يمتلك الأرض قبل أنْ يستقر عليها الناس . وبناءً على هذا كله فإنه ينبغى أنْ يُـطرد الرهبان لا النمل من الأرض التى ليس للرهبان حق فيها سوى أنهم يريدون أنْ يضعوا يدهم عليها بالقوة. وفى نهاية الدفاع قال المحامى عن النمل : إنّ أصحاب الدعوى ينبغى عليهم أنْ يُـدافعوا عن بيوتهم وطعامهم بالوسائل الإنسانية ، وهو الأمر الذى لا يُعارضه المدعى عليهم (النمل) حيث أنهم سوف يستثمرون فى حياتهم مستجيبين لقانون الطبيعة. ومُـتمتعين بحريتهم فى الأرض ، حيث أنّ الأرض ليست ملكــًا للمدعين وإنما هى ملك للرب ، فالأرض ملك للسيد الإله وهذا هو سبب كمالها. وبعد أنْ استمع القاضى لممثل الإدعاء وممثل الدفاع عن النمل أصدر حكمًا تضمّن أنْ يُحدد الرهبان مكانـًا مناسبًا بجوارهم لسُـكنى النمل ، ويتحتــّم على النمل عندئذ أنْ ينزح فى الحال إلى المأوى الجديد ، وإلاّ تعرّض لعقوبة الطرد من رحمة الكنيسة ، وبذلك يتصالح الطرفان وأنه ينبغى للنمل أنْ يتذكر أنّ الرهبان عاشوا فى الأرض ليزرعوا فيها تعاليم المسيح . أما النمل فيمكنه أنْ يكسب عيشه فى يُسر فى أى مكان آخر دون أنْ يُــكلفه ذلك أدنى مشقة. وبعد أنْ نطق القاضى بالحكم كلــّف أحد الرهبان بأنْ يحمل رسالته إلى النمل ، فذهب الراهب وقرأ منطوق الحكم على النمل عند أبواب جحوره وبصوت مرتفع حتى يصل صوته لأذن النمل . وانتهتْ القضية بأنْ امتثل النمل لحكم المحكمة. وقال من أرخوا لتلك الواقعة أنهم شاهدوا النمل وقد خرح من جحوره فى صفوف منتظمة إلى المكان الذى حدّده رهبان الكنيسة. وهكذا يتبيّن للعقل الحر أنّ البشر ظلوا حتى القرن الثامن عشر الميلادى أسرى للميتافيزيقا فى أعلى مراحلها (أى الخرافة) فكانت بعض الشعوب تـُحاكم الحيوانات والحشرات معاملة الإنسان (العاقل) وبالتالى فإنّ ما حدث من وقائع حقيقية تصلح كمادة درامية/ كوميدية/ عبثية ، خاصة مشهد الكاهن وهو يتلو منطوق الحكم على النمل أمام جحورها وبصوت مرتفع حتى يصل صوته إلى أذنها. ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بشر يُحاكمون الحيوانات والحشرات (1)
-
دراما حياة ومقتل عثمان بن عفان
-
الجمل وصفين وبحور الدم
-
القرآن والأحاديث والسيرة والغزو
-
هامش على أحاديث وسيرة (نبى) العرب (3)
-
أحاديث (نبى) العرب محمد (2)
-
قراءة فى أحاديث (نبى) العرب محمد (1)
-
مغزى تعدد أسماء الآلهة
-
الجسد بين الإنسان والوطن إبداعيًا
-
العلاقة بين الواقعى والغرائبى فى (ماكينة الأحلام)
-
حنان الشيخ وروايتها البديعة مسك الغزال
-
ذيح الابن فى تراث الشعوب القديمة
-
الأدب الإسرائيلى ومجابهة الصهيونية
-
الخيال والواقع فى الأسطورة الأوزيرية
-
القومية العربية والقومية المصرية : نقيضان
-
الهجرة والعودة للوطن الأم
-
الوحدة العربية والوحدة الأوروبية : مفارقات
-
الجوائز الدولية والأغراض السياسية
-
اعتذار وتوضيح
-
الوسطية الدينية : وهم أم حقيقة
المزيد.....
-
آخر تطورات ما يجري بالضفة الغربية والمسجد الأقصى المبارك
-
اليوم الـ84 من العدوان المستمر واقتحام المسجد الأقصى ودهس مج
...
-
الشرطة الألمانية تعتقل شبانا حاولوا التسلق إلى كاتدرائية كول
...
-
مستعمرون يقتلعون أشجاراً ويجرفون أراضٍ بالخليل وسلفيت
-
مصادر فلسطينية: مستعمرون يؤدون طقوسا تلمودية بالمسجد الأقصى
...
-
مظاهرات حاشدة في مدن عربية وإسلامية دعما لغزة
-
الخارجية الأمريكية تطالب الموظفين بالإبلاغ عن حالات التحيز ض
...
-
أحد الشعانين: مسيحيو غزة يحتفلون في -ثالث أقدم كنيسة في العا
...
-
أنور قرقاش يهاجم -الإخوان المسلمين- ويثير جدلا على منصة -إكس
...
-
عاجل | أبو عبيدة: فلسطين وشعبها لن ينسوا الوقفة المشرفة من ا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|