خالد حسن يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 4609 - 2014 / 10 / 20 - 14:24
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في اعتقادي الشخصي أرى أن كل انسان بغض النظر عن دينه أو أعتقاده, هو علماني بدرجة ما, والسبب أن العلمانية تنساق لفكر انساني غير ديني أولا وأخيرا, وعموم الناس بغض النظر عن أديانهم لا ينطلقون من ممارسة حياتهم المعيشية انطلاقا من تعاليم دينية, بل من رغباتهم,حاجتهم,مصالحهم وغير ذلك. وبتالي فإنه هناك مساحة علمانية في داخل كل نفس بشرية,وبمعنى أن كلنا علمانيين.
من خلال قراءة التاريخ البشري نرى أن العلمانية كان لها سيرورة تاريخية, وأنها ليست وليدة سياق تاريخي ايديولوجي وتحديدا الأوروبي, فالتاريخ البشري عهد الأديان منذ القدم وقبل قدوم الأديان الكبرى والتي لا زالت ذات وجود تاريخي, وخلال تلك الرحلة التاريخية الطويلة كان هناك بشر بعيديين عن الدين وآخرين على مسافة أقرب من هؤلاء, وبتالي فإن نمط العيش الانساني لم يكن مستندا لدين حصرا, وذلك يؤكد قدم العلمانية, كما أن الالحاد بدوره لم يكن وليد سياق إيديولوجي معين, بقدر ما أنه قديم تاريخيا.
العلمانية التي يتحدث عنها العلمانيون عادتا, هي العلمانية كاديولوجيا وهذه تشكلت في أوروبا تحديدا وتم تطويرها وشربت من مفاهيم فكرية عديدة حلت عليها ومنها الشيوعية,الليبرالية والديمقراطية, وتتعدد العلمانية بمدارسها العديدة نظرا لاختلاف وتعدد الرؤى الفكرية الانسانية, وبتالي هناك علمانية ملحدة,علمانية شمولية وغير شمولية(جزئية), وهناك فروق بينهما, وبحيث أن كل منهما تقف على مسافة محددة من الدين.
العلمانية الشمولية ترى, بأن يكون دور الدين بين الفرد وذاته وأن يتم فصل الدين عن شؤون الدولة حتى تقف الدولة على مسافة واحدة من أفراد المجتمع, بغض النظر عن معتقدهم أو حالة الالحاد الذاتي لدى البعض منهم, وترى العلمانية الشمولية, أن رجال الدين والمتطرفين الدينيين يطوعون العقيدة وفقا لمصالحهم ورغباتهم, وهذا بطبيعة الحال وارد وهو يشكل بإرث انساني لا زالت البشرية تعاني منه, مع تعدد أديانها ورجال أديانها.
وترى العلمانية الشمولية أنه من الضرورة وضع حد نهائي لسيطرة واستغلال الدين ولرفع المعاناة عن الانسان, وذلك لخلق مجتمع متجانس في الحقوق والمواطنة, وبالنظر إلى القيم الانسانية المشار إليها والتي تنادي هذه العلمانية بها, يتضح أن الأديان لا تتفق مع العلمانية الشمولية في النظرة لها بشكل تام وحتمي, بل تقف على مسافات متعددة من هذه العلمانية.
العلمانية الشمولية لا ترى في النظرة الميتافيزقية والتي تحملها الأديان, وهي تحصر صلتها مع الانسان من المنظور الدنيوي القائم اجتماعيا, وهذه العلمانية تصبح بالدواء لتعايش المجتمع المتعدد الأديان بغض النظر عن الجغرافيا التي ينحصر في ظلها على المستوى العالمي.
كما أن العلمانية تصبح بحاجة انسانية في ظل المجتمعات التي ترى في ضرورة تحكيم دور الدين على مستوى الحياة, وتحديدا المجتمعات المسلمة والتي تعيش حالة التمزق الطائفي,المذهبي, وبحيث يصبح هناك دورا للقيم المشتركة ما بين العلمانية والاسلام كنموذج, لحفظ المجتمع من التمزق والصراعات الداخلية, وذلك عبر قوانين يحتكم إليها الجميع بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم, أنطلاقا من منظور لا نص ديني إلا بقانون متفق عليه من قبل المجتمع, ناهيك عن الاحتكام إلى المساحة الدينية والمذهبية المشتركة في حالة المسلمين كنموذج.
ولا يجب إغفال أن العلمانية ليست بقيم فكرية جامدة ثابتة, بل هي قيم انسانية متحركة ومتجددة مع مرور التاريخ, وهذا هو الفرق الجوهري بينها وبين الأديان, رغم أن ذلك لا ينفي هذه الماهية ذاتها عن بعض الأديان والتي يمكنها مواكبة السيرورة التاريخية, لدى على العلمانيين تفهم أن الدين غير قادر على مجارة العلمانية بصورة شاملة, بحكم ثبات قيمه المعرفية الأساسية(المشروع والغير مشروع), ووجود تباين فكري بينه وبين العلمانية, وعدم قدرته المطلقة على مواكبة السيرورة العلمانية التي لا تضبطها حدود فكرية, وبحيث أنه لا يمكن التكهن بالقيم التي ستدعو لها العلمانية بعد عدة قرون من الزمن.
وتطرح النظرة التوفيقية ذاتها هنا انطلاقا من الرغبة في الاحتكام, إلى الانسان أولا وأخيرا صاحب المصلحة الحقيقية في تنحية الدين أو ممارسته على شتى أصعدة الحياة, وذلك عبر خلق ووضع سياق دستوري عقدي ومتفق عليه بين أفراد المجتمع عموما, وبحيث ينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى إيجاد سياق فهم مشترك بين العلمانية والمجتمعات المحتكمة إلى الأديان, وعدم التغاظي عن أن التمسك بدور الدين هو خيار اجتماعي انساني أولا وأخيرا, وليس صنيعة تمسك رجال الدين بذلك.
وبحيث أن لا يكون مبرر وجود العلمانية حصرا هو سيطرة رجال الدين, وبحيث أن يتم التأسيس للمنظور العلماني لما هو أبعد من هذه النظرة المحدودة والتي يتخدها أنصار الفكر العلماني, كمسوق لوجودها, لاسيما وأن التاريخ الانساني قد أكد على وجود ودور العلمانية في الحياة البشرية منذ القدم, وقبل تشكل هذه القوى الاجتماعية المستفيدة من استغلال الدين, لدى على العلمانيين تفهم, أن من يرغب في تحكيم دور الدين في الأوساط البشرية ليسوا قاصرين على رجال الدين, بل هم المجتمعات, وبتالي أن ينطلق الخطاب العلماني الفلسفي من مراعاة هذا السياق والمنحى.
على العلمانية والعلمانيين كسب المجتمع والتركيز عليه كهدف أساسي وليس التركيز على خطاب مواجهة رجال الدين والطبقة الحاكمة الاستبدادية والمستغلين, والذين سيقتربون أكثر من المجتمع طالما تواضع الخطاب العلماني وصيغ ممارسته, والمشهود أن العلمانيين يمنحون هذه القوى نقاط القوى لاستمراريتها.
وبالنظر إلى الاشكالية القائمة انسانيا عموما هي مدى في تذبذب النظرة الانسانية إلى دور وحدود الأديان والعلمانية, وإشكالية تحديد الحدود الفاصلة بينهما, لدى على العلمانيين أن لا يستنفذوا جهودهم في تحديد المساحة بين الدين والعلمانية, وأن يترك ذلك للإنسان ذاته صاحب المصلحة الحقيقية في الخيار وبعيدا عن التأثير الغير الحيادي.
خاصة وأن السيرورة التاريخية تؤكد أن كل مجتمع انساني بقادر على تحديد حاجته الاجتماعية العامة انطلاقا من مدى حالة تطوره الاجتماعي والتاريخي, وبعيدا من استعارة الحلول التي تم تكريسها في ظل سياق تاريخي مختلف اجتماعيا.
والمنطق الفكري والاجتماعي يشير بالبداهة أن الانسان المتدين أو الغير متدين, هو من يحدد مدى المسافة التي يقفها وسيقفها من الدين, فهو من له الخيار في تحكيم دور الدين أو تنحيته في إطار مدى علاقة الدين مع الدولة, ونظرا لوجود مؤمنيين بالأديان والمسلمين منهم, فإن العلاقة بين المتوالية المشار إليها في هيئة الدين والدولة ستظل قائمة, نعم سنشهد درجات من الشد والجذب فيما بينهما طالما هناك أديان وتحديدا الاسلام, نظرا لشمولية هذا الدين على الصعيد الحياتي عامتا, وبتالي فإن مكانة العلمانية الشمولية بشكل حتمي وتاريخي يمكن أن تتكرس في ظل مجتمعات ترى بتنحية دور الدين عموما.
لدى على العلمانيين التركيز على تكريس القيم الانسانية الغير مختلف عليها, وترك القيم الانسانية المختلف عليها بين المجتمع والتيارات الدينية المتطرفة, إلى المجتمع ذاته, انطلاقا من فهمه المستنير لدين,حاجته ومصالحه, فالمجتمع هو من سيخوض صراعاته وحماية حقوقه وتحديد فهمه لتفسير الديني ذاته, وحتى لا يصبح العلمانيين ذاتهم كرجال دين عبر قالب أيديولوجي غير ديني!
#خالد_حسن_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟