|
ما لم يقُلْه دارون
عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 3453 - 2011 / 8 / 11 - 11:36
المحور:
الطب , والعلوم
عند نقطة البداية في فهم أصل الكون ومنشأ الحياة، نشأ مصطلحان يمثلان فئتين مختلفتين من العلماء، الفئة الأولى يمثلها "الخلقيون"، وهم الذين يؤمنون أن كل كائن حي خُلق على حاله ، وحسبما أراد له الخالق أن يكون. والفئة الثانية يمثلها "التطوريون"، وهم الذين يؤمنون بالتطور الإحيائي، ويزعمون أن الحياة نشأت منذ مليارات السنين من خلية واحدة، ثم ارتقت وتطورت إلى كل الأنواع التي نعرفها والتي لا نعرفها. ورغم هذا الخلاف العميق، إلا أن "الخلقيون" - أو بعضهم - قد يقبلون بفكرة أن الكون برمّته وُلد من رحم انفجار عظيم، على اعتبار أن الخالق جلّ وعلى هو من أوحى بهذا الانفجار، وأن العناية الإلهية هي التي تحكمت بشظاياه، لينشأ عنها هذا الكون البديع، وقد يقبلون أيضا بفكرة أن هذا الكون قد مرت عليه أكثر من تسعة مليارات عام دون أن يكون من بين موجوداته شيء أسمه كوكب الأرض، وسيجدون التفسير العلمي لقصة خلق الأرض حسب ما وردت في الكتاب المقدس ، وقد يقبلون أيضا بفكرة أن الحياة انبثقت من المادة، مع الإقرار بأن الخالق سبحانه هو من أودع فيها سر الحياة، وقد يقبلون بفكرة أن الكون والطبيعة يعملان بموجب قوانين مادية صارمة، ولكن أيضا مع الإقرار بان الله هو الذي خلق هذه القوانين وجعلها تسيّر نظام الكون. وحتى نظرية التطور، فقد يقبل بعضهم بالقول أن الحيوانات قد تتطور من جيل إلى آخر، وقد تنشأ عن هذا التطور اختلافات جوهرية تؤدي إلى نشوء أنواع جديدة، أو انقراض أنواع أخرى، أما ما لا يمكن أن يقبل به الخلقيون، فهو القول بنظرية التطور للإنسان، وأن أصول الإنسان القديمة تعود لفصيلة القردة، ويعتبرون هذا تناقضا صريحا مع ما جاء في الكتب السماوية، بل أنهم يعتبرون أن هذا الإدعاء من شأنه أن يحط من قدر الإنسان ويلحق به المهانة. والصراع بين منكري التطور ومؤيديه قديم جدا، وهو ما زال قائما لليوم، ويوْرد المعارضون حججهم التي يعتبرونها دامغة، ويطرحون بعض التساؤلات المشروعة، من مثل: لماذا اكتفت الطبيعة بتطور القرد القديم وحوّلته إلى بشر، في حين مازالت بقية القرود تتزاوج وتنجب قروداً عن قرود ؟ ولماذا قرودنا الحالية لا تتطور إلى بشر؟ فهل توقف التطور؟ ولماذا لم تطور الأشجار أرجل لها تمكنها من الهروب من غابات الحرائق ؟ ويؤكدون قبل ذلك كله معارضتهم المطلقة لمبدأ الصدفة في الخلق. ويرد عليهم التطوروين بأن القرد ذاته لم يتحول إلى إنسان، بل هناك سلف مشترك قديم، انفصل عنه نوعان: هما الإنسان والشمبانزي، وسار كل منهما بطريق تطوري مختلف، ولكنهما احتفظا بالعديد من صفات ذلك السلف البعيد. ثم أن الخلية الأولى التي نشأت عنها الحياة لم تولد بالصدفة، بل نتجت عن سلسلة تفاعلات كيميائية عديدة في ظروف طبيعية غير موجودة على الأرض اليوم، وقد تم أثبات ذلك مخبريا كما في تجربة ميلر . أما التطور فهو لم ولن يتوقف ولكنه بطيء جدا، ويستغرق ملايين السنين، فإذا كان عمر الإنسان لا يتعدى بضعة عقود من السنين، فكيف إذن يتسنى له أن يرى التطور بأم عينيه ؟ ويؤكد العلماء التطوريون أيضا أن الطبيعة تركت لنا شواهد على التطور الإحيائي، أهمها بقايا الكائنات المتحجرة داخل الصخور (Fossils)، أي ملايين من الأحافير والمتحجرات التي ينطق تاريخها بكل صدق، والتي تحكي قصة التطور من أولها لآخرها بالتفصيل. حيث نجد داخل الطبقات السفلية العميقة، بقايا كائنات بدائية تختلف تماما عن الكائنات المتحجرة في الطبقات العليا القريبة من السطح. في الطبقات السفلى، نجد آثار لكائنات وحيدة الخلية مثل الأميبا. وعندما نتجه للأعلى نحو السطح، نمر بكائنات مثل الديدان، ثم الأسماك الهلامية. وبعد ذلك تأتي الكائنات التي لها أطراف وعيون. بعد ذلك يبدأ ظهور أول الفقاريات. في آخر الطبقات القريبة من السطح، تظهر بقايا الإنسان . ومن تلك الشواهد أيضا، ما هو مخزون داخل الخلية، وهي جزيئة ال DNA التي تحكي قصة وجودنا على الأرض. ويؤكدون أنه في عالم الأحياء لا يوجد شيء اسمه صدفة، بل البيئة هي المحرك الأساس لكل التغيرات الإحيائية، والبيئة اصطلاح واسع المعنى يشمل جوانب في غاية التعقيد والتأثير. في العام 1859 نشر العالم الإنجليزي تشارلز دارون كتابه "أصل الأنواع" والذي تضمن نظريـته في النشوء والارتقاء ، وهي في جوهرها فرضية بيولوجية أبعد ما تكون عن النظريات الفلسفية، وتدور هذه النظرية حول عدة أفكار وافتراضات أهمها: أن أصل الكائنات العضوية ذات الملايين من الخلايا يعود لكائن بسيط ذو خلية واحدة. وأن تطور الحياة في الكائنات الحية يمضي من البساطة وعدم التعقيد إلى الدقة والتنوع والتخصص والتعقيد، أي من الأدنى إلى الأرقى. والتطور حسب النظرية، يحدث عند توفر ميزة قابلة للتوريث، تؤدي إلى زيادة فرصة بعض الأفراد الحاملين لهذه الميزة بالتكاثر أكثر من الأفراد الذين لا يحملونها، وأن الأنواع القوية من الكائنات امتلكت عوامل البقاء والتكيف مع البيئة، ما مكّنها من التغلب على الكوارث البيئية والظروف القاسية، وقد أدت عمليات التكيف والانتخاب الطبيعي إلى تحسن نوعي مستمر نتج عنه أنواع راقية جديدة، بينما الأنواع الضعيفة أخفقت في التكيف، مما أدى إلى زوالها وانقراضها. وتفترض النظرية أن الفروق الفردية داخل النوع الواحد ينتج عنها أنواعاً جديدة مع مرور الأحقاب الزمنية الطويلة. وتفترض أيضا أن كل مرحلة من مراحل التطور أعقبت التي سبقتها بطريقة حتمية، وأن العوامل الخارجية هي التي كانت تحدد نوعية هذه المرحلة، وهذا يعني أن خط التطور ذاته متعرج ومضطرب، ولا يسعى إلى غاية مرسومة، ولا يسير نحو هدف بعيد، لأن الطبيعة التي أوجدته غير عاقلة ولا واعية، وبالتالي فإنه لا يقوم على قاعدة منطقية مطردة، بل هو خبط عشواء. وتقوم النظرية على أصلين كل منهما مستقل عن الآخر: الأول أن المخلوقات الحية وجدت في مراحل تاريخية متدرجة، ولم توجد دفعة واحدة. والثاني أن هذه المخلوقات متسلسلة وراثياً ينتج بعضها عن بعض، بطريق التعاقب، خلال عملية التطور البطيئة الطويلة. وتعترف النظرية بوجود حلقة أو حلقات مفقودة في سلسلة التطور. وهنا يجب التأكيد على أن دارون لم يكتب أبدا بأن الإنسان انبثق عن أحد القرود بالصورة الموجودة عليها حاليا، وفي كتابه أصل الأنواع لم يتطرق على الإطلاق لقصة أصل الجنس البشري، وربما كان ذلك عائدا لخوفه من الانتقاد ، ولكن بعد أن أثار كتابه الزوبعة، لم يعد هناك ما يخشاه، فنشر كتابه الجديد "انحدار الإنسان" والذي تناول فيه بجرأة مسألة تطور الإنسان . علماء عديدون لم يقتنعوا بصحة نظرية دارون، ومنهم من سعى إلى تفنيدها ودحضها، وتسليط الضوء على بعض الثغرات التي تعتريها، ومنهم من رفضها كليا، وما يُؤخذ على هؤلاء المعارضين أنهم في رفضهم لنظرية التطور ينطلقون من اعتبارات أخلاقية ودينية، بينما الحقائق العلمية لا تعبأ بهذه المعايير ولا تأخذ بها. ومن أشهر من حمل لواء المعارضة لنظرية التطور في بداية ظهورها العالم السويسري جان أغاسي، أستاذ التاريخ الطبيعي في جامعة نيوشاتيل في سويسرا، وجامعة هارفارد بأمريكا. وقد ظهرت معارضته لداروين بسبب رفضه فكرة أن أصل البشر واحد، حيث اعتبر في كتبه بأن الأفارقة جنس دوني مختلف عن باقي البشر، وذلك لتأكيد فكرة تفوق الرجل الأبيض، ولتبرير ممارساته العنصرية واحتلاله للمستعمرات واستعباده سكانها، كما كان يحصل في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الإنسانية. ولكن في المقابل هنالك الكثير من العلماء ما زالوا يعتبرونها أساسا صالحا لعلم الأحياء، وأنها قادرة على تفسير العديد من الظواهر الطبيعية، ويدعمون أرائهم بالأدلة العلمية. ويعتمد مؤيدو نظرية التطور على الأحافير والمستحاثات، التي هي عبارة عن سجلات تروي تاريخ الأنواع المختلفة وزمن نشوئها. وعلى التشريح المقارن للنباتات والحيوانات الموجودة حاليا، والمقارنة المورفولوجية والشكلية بين الأنواع الحالية والأنواع المنقرضة، وتشخيص الارتباطات بينها، وتحديد الأصول المشتركة بين هذه الأنواع . ويضيفون دليلا آخر من خلال وجود أنواع معينة من الكائنات تعيش فقط في الجزر والمناطق المعزولة، والتي تطورت على نحو يختلف عن قريناتها من نفس النوع الواحد. وإلى جانب الإثباتات التي تقدمها علوم الإحاثة والتشريح، هنالك أيضا ما تثبته علوم الجغرافيا والجيولوجيا، والمناخ، كما ويعتبر مؤيدو التطور أن علم الوراثة قد أفادهم أكثر من أي علم آخر، وأن تطور هذا العلم الذي تحقق بعد موت دارون بزمن طويل، قد قدم إجابات حاسمة تشرح تاريخ التطور، وذلك بدراسة سجل التطور عن طريق كروموسومات الكائنات الحالية والمنقرضة، والتأكيد على وجود صلات قرابة بين الأنواع المختلفة. فعن طريق الدراسات الوراثية أمكن الكشف عن عمق الصلات بين الكائنات الحية، والتشابه الكبير في شيفراتها الوراثية، إذْ تبين مثلا أن 96 % من الصيغة الوراثية (الجينية) متشابهة بين الإنسان والشمبانزي . ولكن تشابه جينات الإنسان مع الشمبانزي لابد أن يطرح التساؤل المثير: إذا كنا متشابهين إلى هذا الحد، فما الذي يجعل من الإنسان إنساناً، ومن القرد قرداً ؟! هذا السؤال طُرح في العقد الأخير، بعد أن تم تخطيط الجينوم البشري بالكامل. كما جاء في الإعلان المشترك بين الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) ورئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) في صيف 2004، حيث أعلنا حينها عن الانتهاء من فك رموز وجدولة كامل المخزون الوراثي البشري تقريباً. ومن الجدير بالذكر أن هذا الاكتشاف قد تم من خلال دراسات مكثفة وتعاون حثيث بين عشرة من أكبر المراكز العلمية في العالم، اشترك فيه أكثر من 1600 عالم من 16 دولة مختلفة، على مدار عشر سنوات متواصلة. وقد وُصف هذا الاكتشاف بأنه أكثر أهمية من هبوط الإنسان على سطح القمر، وأنه الإنجاز العلمي الأضخم الذي يستقبل به العالم الألفية الثالثة. وبعد فك رموز جينوم كل من الإنسان وعدد من الحيوانات من ضمنها الشمبانزي في أيلول 2005، تبيّن أن التشابه الكمي لتواتر نيوكليوتيد واحد من ضمن الأربعة نيوكليوتيدات بين الشمبانزي والإنسان يساوي 98.8 %. مع وجود فروقات مهمة في الكيفية، فالإنسان لديه 46 زوج من الكروموسومات، بينما الشمبانزي لديه 48 زوج ، كما أن جزيئة DNA في الإنسان تحتوي على ثلاثة مليارات قاعدة نيتروجينية ، منها 40 مليون قاعدة فقط ليست موجودة عند القرد، وهو رقم ضئيل نسبيا بالقياس للعدد الكلي للقواعد، ويمثل نسبة تقل عن 4 % من التركيبة الجينية ككل. في هذه الملايين الأربعين يكمن اللغز الذي يجعلنا بشراً. وبعبارة أخرى هنالك 53 جينا فقط من مجموع 35000 جين فعال في الإنسان غير موجودة في خلايا الشمبانزي . هذه الجينات في الواقع تحدد صفات محددة عند الإنسان ، مثل المشي على قائمتين، والقدرة على النطق، وحجم الدماغ، الشعر، الطول ... كذلك تبين وجود بضعة جينات في الشمبانزي ليست موجودة عند البشر. كما بينت الدراسات وجود تشابه جيني كبير بين الإنسان والفأر، بنسبة تصل إلى 88 %، ولهذا كانت التجارب الطبية والدوائية تجرى على الفئران. ويلعب لولب ال DNA من خلال جينات السيطرة دورا رئيسيا في تحديد الصفات الوراثية، وبالتالي عملية التطور، فهو يقوم بإسكات جينات معينة في وقت معين، وإيقاظ جينات أخرى من سباتها في الوقت المطلوب، وخصوصا الجينات المتشابه التي ورثتها من نفس السلف القديم، حيث يطرأ على بعضها تغييرات معينة في وظيفتها استجابة لتغيرات بيئية كبيرة. ومن هنا فإن جينات السيطرة هذه تعتبر مهمة جدا لتحديد الشكل العضوي للكائن الحي.. وربما لا يعلم الخلقيون المعارضون لنظرية التطور أنهم يتفقون تماما مع التطوروين بأن الصدفة لا يمكن أن تلعب أي دور في نشأة وتكوين الحياة !! وأن هذه الصدفة مستبعدة كليا من حسابات العلماء على اختلاف توجهاتهم. فإذا أخذنا الإنسان مثلا لذلك سنجد أن جسمه يتألف من حوالي 50 ترليون خلية حية ، ويبلغ تعقيد هذه الخلية ما لم يبلغه أكبر المصانع التي بناها الإنسان أو فكر ببنائها. ويقدر العلماء أن كل خلية حية تحوي 10 بليون جزيء بروتين، بتنوعات مختلفة تفوق العشرة آلاف نوع، فإذا ضربت في المتوسط كل بروتين ب 250 حامض أميني يتكون منه، سنجد في كل خلية حوالي 2500 بليون حمضا أمينيا، مرتبة بطريقة لا تقبل الخطأ أبداً، وهذا لا يمكن أن يتحقق بالصدفة. وتعتبر البروتينات من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية. وهي تتكون من خمسة عناصر هي: C ) H, N, O, ( S, ويبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني الواحد 40000 ذرة. ولما كان عدد العناصر الكيماوية في الطبيعة 92 عنصرا موزعه كلها توزيعا عشوائياً، فان احتمال اجتماع هذه العناصر الخمسة لكي تكوّن جزئيا من جزئيات البروتين هو 1 إلى عشرة مضروبا في نفسه 160 مرة، وهي فرصة لا يمكن أن تتهيأ عن طريق المصادفة، وفي الرياضيات عندما تتخطى العشرة مضروبة في خمسين يكون الاحتمال مستحيلا، فإذا كان من المستحيل اجتماع هذه العناصر من بين العناصر الموجودة في الدنيا لوحدها بمحض الصدفة لتكون الحمض الأميني، ، وبما انه لدينا عشرون حمضا أمينيا تشترك في بناء الجزيء البروتيني، فحتى يحصل احتمال اجتماع تلك العناصر بالصدفة لتكوين حمض أميني ليتكون من مجموع تلك الأحماض الجزيء البروتيني نضرب ذلك الاحتمال في عشرين، ليكون الناتج لدينا هو واحد مضروبا في عشرة أمامها 840 صفر، وحتى يكون اجتماع هذه الأحماض في الخلية على النحو الصحيح لا بد أن تكون مرتبة ترتيبا يساريا، ومثل هذا الاحتمال يوصل إلى المالا نهاية. وحتى نتصور مقدار ضخامة هذه الأرقام فإن تقدير المسافة بين طرفي الكون المنظور بالأمتار هو رقم واحد أمامه 28 صفرا فقط، وأن عدد الثواني من عمر الكون منذ نشأته حتى اللحظة هو واحد أمامه 17 صفر، وأن عدد كل الجزيئات الموجودة في الكون بما فيه من نجوم ومجرات وما بينهما من فراغ هو واحد أمامه 80 صفر فقط . ويقدر العلماء أن أقل عدد من البروتينات اللازم لأبسط مخلوق حي هو 238 بروتين، وهذه البروتينات يمكن أن تجمعها مع بعض بتنوعات مختلفة وطرق ربط مختلفة، ولكن جمع هذه البروتينات التي تلزم لتكون تلك الخلية معا، ووضعتها بالترتيب الصحيح، فإن احتمال ذلك بالصدفة هو ضرب من المستحيل. ويضرب العلماء أمثلة باتت شهيرة لاستحالة إمكانية نشأة الحياة بالصدفة، كأن تعطي مجموعة من القرود آلات طابعة وتتوقع منهم أن يكتبوا قصيدة شعرية موزونة ، أو أن تضرب عاصفة هوجاء ركاما من قطع الحديد المتناثرة لتشكل منها طائرة جامبو جاهزة للإقلاع. أو أن تقذف بكرة سلة من على طائرة تحوم فوق مدينة كبيرة لتسقط هذه الكرة في ملعب المدينة الوحيد، وبالذات في المرمى تماما ... وهذه احتمالات كلها مستحيلة دون شك. ولكن لا دارون ولا الدارونيون الجدد قالو باحتمالية هذه الصدفة ، بل قالوا أن الحياة في البدء نشأت من خلية في غاية البساطة، تحتوي على عدد قليل جدا من الأحماض الأمينية، وأن هذه الخلية احتاجت مليارات السنين حتى تطورت وصارت متعددة الخلايا، ومن ثم تحولت إلى متعضيات بدائية، ثم واصلت تطورها حتى نجم عنها هذا القدر الهائل من المخلوقات عبر سلسلة طويلة جدا وبطيئة جدا وضمن عملية في غاية التعقيد. طائرة الجامبو بالتأكيد لم تتكون عن طريق الصدفة، ولا يمكن لها ذلك، بل هي نتاج سلسلة طويلة جدا من التعقيد التكنولوجي بدأت بأولى محاولات البشر للطيران، بل ويمكن القول أنها بدأت قبل ذلك بزمن سحيق، أي بتقنيات البشر البدائية في صنع الأدوات الحجرية وتقنيات تشذيب العظام وتحويلها إلى رماح، ثم تطورها عبر مراحل تاريخية لاحقة شهدت صناعة أول آلة بخارية، ثم الثورة الصناعية بكل منجزاتها. وقد أثرت في هذه العملية الطويلة من التطور التسلسلي وأسهمت بدفعه علوم وتقنيات أخرى عديدة، كالرياضيات والفيزياء والحاسوب وعلوم التعدين والتصنيع والاتصالات وعلوم الفضاء .. وكانت كل مرحلة من مراحل التطور تقدم إضافة جديدة. فما بدأ بالحجر انتهى بالطائرة. تماما كما بدأت الخلية وانتهت بالإنسان. وليست القرود وحدها من يعجز عن طباعة قصيدة شعر بالصدفة، فالإنسان الواعي القديم أيضا سيعجز عن ذلك، ولكن هذا الإنسان بعد تاريخ طويل من التقدم والتطور سيكون قادرا على طباعة أجمل القصائد. وقد استعان العلماء لتتبع آليات التطور بالكائنات الحية ذات دورة الحياة القصيرة، التي تسمح بتتبع عدة أجيال منها، وهي الطريقة المثلى لتقدير أهمية دور الانتخاب الطبيعي في عملية التطور. تماما كما فعل مندل بالاستعانة بنبات الفاصوليا لتشخيص الاختلافات في الصفات الوراثية بين الأجيال. على سبيل المثال بعض أنواع البكتيريا تستطيع مضاعفة عددها كل نصف ساعة، وهكذا لنتصور مجموعة من البكتيريا موزعة في نمطين جينيين وبأعداد متساوية، وكليهما يلتزمان بنفس آلية التكاثر، والآن لنفترض حدوث تغير فجائي في البيئة، مثل وضع مضاد حيوي. في هذه البيئة يستطيع النمط الأول مقاومته، في حين يعجز عن ذلك النمط الثاني. في هذه البيئة الجديدة، يكون النمط الأول أكثر لياقة؛ أي إنه أحسن تكيفا، وبالتالي سيبقى ومن ثم سيتكاثر، بينما سنجد النمط الثاني مهددا بالفناء. ومثال آخر إذا عرضنا مجموعة من الحشرات لمبيد كيماوي بتركيز سمّي معين، ستموت معظم هذه الحشرات، وستنجو فقط أعدادا قليلة منها، وهي التي استطاعت التكيف والمقاومة، وعندها سينشأ منها أجيال جديدة تتحمل هذا المبيد، وسنحتاج لتركيز أعلى في المرة القادمة لقتل هذه الحشرات المتكيفة، ومن المؤكد أن آلية البقاء والتكيف لدى الحشرات ستتكرر مرة ثانية. وإذا ما وجدت مجموعة معينة من الأرانب البرية في منطقة الأسكيمو مثلا، وكان من ضمنها أرانب بيضاء بلون الثلج وأخرى بألوان مختلفة، فإن الأعداء الطبيعيين للأرانب سيفترسون الأرانب الملونة لسهولة كشفها، وبالتالي ستنقرض، وستبقى فقط الأرانب البيضاء. وهذه مجرد أشكال من أنماط الانتخاب الطبيعي، وصور التكيف التي تحدثت عنها نظرية التطور. ويؤكد علماء الوراثة التطوريين أن منشأ الأنماط الجينية المختلفة هو طفرات في جزيء DNA، أي حدوث تغيرات عشوائية في تسلسل النكليوتيدات، (وهو خيط متسلسل مكون من الأحرف A، G، C،T ) المكوِّنة للغة الجينوم. ويقدرون على نحو جيد معدل تشكل طفرة واحدة، أي تحول في حرف واحد في DNA إلى حرف آخر. فلكل نكليوتيد في كل خلية تناسلية، في كل جيل، فرصة واحدة في البليون تقريبا كي يتحول إلى نكليوتيد آخر. ولكن الأهم في هذا السياق، هو تأثير الطفرات في القدرة على التكيف وتحسين الصفات الوراثية. فالغالبية الساحقة للطفرات العشوائية ضارة بالكائن الحي؛ وتحط من لياقته؛ ويقتصر المفيد منها الداعم للياقة على أقلية قليلة جدا. وتكمن الصعوبة الرئيسية في أن زيادة اللياقة الناجمة عن طفرة مفيدة قد تكون زيادة صغيرة جدا، وهو الأمر الذي يجعل التغير التطوري بطيئا جدا. واكتشف علماء الوراثة المختصون بأن للانتخاب الطبيعي قوة إبصار من الصعب تصورها، تستطيع تمييز تباين مدهش في الصغر في مستوى لياقة الأنماط الجينية. ففي جماعة مكونة من مليون فرد بمقدور الانتخاب الطبيعي أن يعمل من خلال تباين صغير في مستوى لياقة الأفراد يصل إلى واحد في المليون. ادعى دارون أن البيئة تلعب دورا حاسما في تغيير الصفات الوراثية للكائنات، وبالتالي تغير أشكالها مما يمهد لظهور أنواع جديدة، ففي بعض الحيوانات، ظهرت التغيرات التكيفية بسرعة كافية تسمح بملاحظتها: مثل طائر داب العسل القرمزي في جزر الهاواي، الذي كان له منقار طويل ورفيع يمكنه من امتصاص الرحيق داخل الزهرة، ولكن مع تلاشي المصدر المفضَل للرحيق، اعتمد الطائر على رحيق من مصدر آخر، فصغُر منقاره وتغير شكله، وأيضا الأرنب البري في أستراليا، تغيَر حجمه ووزنه وأبعاد أذنه بعد أن جلب من أوروبا وتكيف مع المناخ الحار الجاف في أستراليا . أما ادعاء داروين الأكثر جرأة فيما يخص الانتخاب الطبيعي، يتلخص في اعتبار الانتخاب الطبيعي هو العامل الذي يفسِّر كيفية نشوء الأنواع. وعلى الرغم من ثقة البيولوجيين في دفع الانتخاب الطبيعي للتغير التطوري، فإننا غالبا ما نجدهم يجهلون كيفية حدوث ذلك، وهذا يشمل حتى سمات بدنية عادية. ولكن يمكن مشاهدة كائنات حية تأتي كما لو أنها مرحلة وسطى بين مرحلتين من التطور لنوعين مختلفين، مثلا حيوان اللاما الذي يعيش في أمريكا الجنوبية، يشبه الحصان والغزال والجمل في أعضاء مختلفة من جسمه، أو حيوان الكواجا المنقرض، الذي يأتي بين الحمار العادي والحمار الوحشي. كما يمكن ملاحظة الشبه بين كل من الأسد والضبع والذئب والكلب، كما لو أنها نسخ مصغرة عن بعضها، مع فروقات شكلية هنا وهناك. كثير من النقاط لم توضحها نظرية التطور، وأسئلة عديدة ما زالت تثيرها ولا نجد لها جوابا شافيا: مثلا هل بمقدور الانتخاب الطبيعي تفسير ميكانزمات التطور بدقة ؟ وما هو الدور الذي يؤديه الانتخاب الطبيعي في عملية تكون الأنواع وتشعب سلالة معينة إلى سلالتين ؟ كيف تحتفظ سلالة ما بنفس صفاتها، بينما سلالة أخرى تتفرع إلى سلالات ؟ وهذه نماذج لأسئلة محيرة لا تزال إلى اليوم مثار جدل، وليس شرطا أن تتمكن أبحاث البيولوجيا التطورية من الإجابة عليها، على الأقل في المدى المنظور.
خاتمة سريعة فقط أربعة قواعد نيتروجينية، تتآلف معاً ضمن ثلاثة مليار تشكيل مختلف من الأزواج المتقابلة، لتصنع معا الجينوم البشري. هذا هو سر الإنسان بكل بساطة، وبقدر ما بيّن العلم مدى تعقيد تركيبه، فقد فَضَحَ هشاشته، إذْ أن خللاً واحداً في جين واحد، أو تغيير بسيط في ترتيب هذه الأزواج سيؤدي إلى تغيير كبير في صفات هذا الإنسان، وربما تسبب تشوهه، أو موته، أو امتلاكه عبقرية فذة، أو جمالا ساحرا. ماذا سيفعل إنسان المستقبل، بعد أن كشف هذا السر العظيم ؟؟ سؤال برسم الإجابة.
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انفجار الحياة
-
أينشتاين على الخط - النظرية النسبية في فهم نظام الكون
-
كيف نفهم نظام الكون ؟
-
ديمقراطيات استبدادية
-
لماذا لا ينتحر الرؤساء العرب ؟!
-
دبي .. صورة قريبة لمستقبل بعيد
-
المغرب .. البوليساريو .. وأزمات أخرى لم تحل
-
السودان الجنوبي مؤامرة خارجية أم استحقاق داخلي
-
السياسة الروسية في الشرق الأوسط
-
الثورات العربية بين الإرادة الشعبية ونظرية الفوضى الخلاقة
-
عصر الثورات العربية الأسباب والتداعيات
-
الولاء والبراء والتتريس - في الفكر التكفيري
-
التكفير وحرية التفكير
-
المنهج التكفيري عند الإسلاميين
-
منهج التكفير في العقل الإسلاموي
-
في اليمن هل ستغير ساحة التغيير شيئا ؟
-
محاولة في فهم الاسلام السياسي - الجزء 3
-
محاولة في فهم الاسلام السياسي - الجزء 2
-
محاولة في فهم الإسلام السياسي - الجزء 1
-
يوم المرأة في ربيع الديمقراطية العربية
المزيد.....
-
الصين تتفوق على أمريكا وتكسر رقما قياسيا في الفضاء.. إليكم ا
...
-
“تش تش وقت الدوش” فرح أطفالك واستقبل تردد قناة كراميش 2024 ب
...
-
علاج البرد فى المنزل بطرق عديدة منها الفيتامينات وأقراص الاس
...
-
توقعات الأبراج لشهر يناير/ كانون الثاني 2025
-
مواقف ومؤشرات تدل على الحب في العلاقة الزوجية
-
أدعية يومية مستجابة لتحصن نفسك وأهلك من الحرب
-
تفسير رؤية الرمان في المنام لابن سيرين
-
أسرار حقن إبر جوري للنضارة والشد
-
متلازمة سندريلا: أسبابها، أعراضها، وطرق العلاج
-
عبارات جميلة عن بداية شهر جديد يناير
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|