أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء















المزيد.....


زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2130 - 2007 / 12 / 15 - 08:27
المحور: الادب والفن
    


1
ـ " قد يتبع مصيبة ، أيّ صوت منا ، أو حركة ! "
تناهى همسُ " جمّو " ، فيما عيناه الصغيرتان ، الضيقتان ، قد إقترنتا ببريق الحذر . وموجب إكتراث رأس عصبتنا ، الجسور ، بالخطر الجليّ ، كان له داع في هذا اليوم ، الصيفيّ ، ما دمنا على موعدٍ آخر ، طائش ، من مواعيدنا المعتادة . " البرزاوي وخنة " ؛ إسمان لمغرميْن في رَقيْم الخطيئة ، الأزليّ ، للجبل الأول ، " قاسيون " ؛ الرقيم ، المحتفي دهراً بأقران لهما ، بلا عدّ ؛ مذ تلك الظهيرة ، القديمة ، التي قالَ فيها عشق " قابيل " ، الخائب ، في الغار المتموضع على الجهة الاخرى من الخلاء هذا ، والمعرّف بـ " مغارة الدم " ؛ بنجع الشقيق ، القتيل . في قاموس النعوت ذاته ، السرمديّ ، جازَ لحارتنا أن تعرّف العاشق الأكثرَ جدّة بأمّه ، الغريبة ، المنحدرة من " برزة " ؛ القرية المستلقية بوداعة في الجانب الشرقيّ ، القصيّ ، من جبلنا . " البرزاوي " إذاً ، كان آنئذٍ في مستهل العشرين من عمره ، الفتيّ ؛ طويل القامة جداً ، متينها ، وبملاحةٍ في ملامح وجهه ، مبينة ، لا تخطئها عيون الفتيات ، الواجدات أدوات ملاهيهنّ ، المعيّدة ، في منزل آل " قاووق " ، على الناحية اليسرى لمدخل " الكيكية " . إبنة المنزل ، والحالة تلك ، كانت الأجدى بتلك النظرات الخاطفة ، اللاهبة ، ما فتأت مقيمة ثمة ، قرب بابه الخشبيّ ، متحججة بإعانة مريدات اللهو . وإسم " خنّة " ، ما هوَ في حقيقته إلا نعتٌ ، شائعٌ ، مستمدّ على الأرجح من صوت صاحبته ، الأخنف . على أنها ، فضلاً عن ذلك ، كانت معرّفة أيضاً بالحسن ؛ بوجه متناسق القسمات ، وشعر كثيف ، أصفر ، منسدل حتى متنة خصرها ؛ أين الرابية المرتفعة ، الوثيرة .

" منزل بكرو " ، بدوره ، هوَ إسم مكان وعلم ، في آن . بين حين وآخر ، كان هذا الإسم ، الغامض ، يتردد على لسان الأهل والأقارب ، على السواء ، مشفوعاً بإشاراتٍ لا تقل غموضاً عن صاحبه ؛ الرجل الأخرقَ ، الذي صرف أعواماً من شبابه في مشروع يمتّ للمستحيل : إستنبات رقعة من أرض الخلاء بالحبوب والبقول ، إعتماداً على المطر الموسميّ ؛ الخلاء ، الممتد بين " وادي سفيرة " شرقاً ، وغرباً حتى حدّ الجبل ، الواقع تحت " المغارة السوداء " مباشرة ً . عاماً بعد آخر ، ما تحصّل الرجل من أرضه هذه ، البوار ، سوى ما يأمله المضنك الظمآن من سرابٍ ، واهم . فما قدّر لقريبنا هذا ، المتنسّب لآل " لحو " ، من إمتلك وقتئذٍ بعض العلم بشؤون التربة ، كيما ينبهه إلى أنّ تلك الأرض كلسيّة ، تحوّل قطرات الغيث ، الزلال ، إلى ماء أجاج ، زعاف . على أنّ سبباً آخر ، لا يمتّ للعلم أو حتى لعالمنا نفسه ، يقالُ أنه كان الدافع للرجل ، المغامر ، كيما يهجر الخلاء ، أبداً . ولكننا ، نحن الرفقة ، الحدَثة ، كنا هنا ، على كل حال ، بعد مضي عقودٍ على رحيل " بكرو " إلى إسثمار آخر له في " الزبداني " ، البعيدة ، هذه المرة . هنا كنا ، إذاً ، نشرف على أطلال منزله القديم ، المنقلب مدماكاً مدماكاً إلى مقمرةٍ ومبغى ، في آن : إبن كبرى خالاتي ، هوَ من كان قد تعهّد الأطلال تلك ، محوّلاً إياها من جديد إلى صفة المنزل ، المفتقدة دهراً ، رافدأ إياه تارة ً بالمقامرين ، واخرى بالمومسات وزبائنهن . هذا الرجل ، العتيّ ، كان معرَّفاً في الوسط الإجراميّ ، الدمشقيّ ، بإبن " فيروزا " ؛ بحسب تحريف حرف الباء ، الأعجميّ ، إلى الفاء . وما دام المكان ، في يومنا هذا من صيف العطلة المدرسية ، قد آل ثانية ً للهجران ، بما أنّ " متعهّده " قد غادرَ البلد لفترةٍ ، مطلوباً من القضاء وملاحقاً ؛ فلنملأه إذاً بحضورنا الآني ، الخفيّ المتواري ـ كما إمتلأ منذ وهلةٍ بحضور آخر ، ثنائيّ ، للعاشقيْن " البرزاوي وخنّة " .

2
ـ " حانَ دوري ، الآن ؛ فلتنهضَ حالاً ! "
همسَ " سيفو " في سمعي ، الأصم . لم أبال بإصراره على حقه في إشباع الفضول ، الطفوليّ ، بمرأى العناق المتلاحم ، المتواصل ، والماعتم أن تفاقم في تداخل اللحم البرونزيّ بقرينه ، الذهبيّ : المشهد هذا ، المتجلي لحظتئذٍ لعينيّ ، المشدوهتين ، كان ما يفتأ على مداومته منظراً منظراً ، متناوباً مع حركة الجسدين العاريين ، المندغمين في بعضهما البعض ـ كحرفيْ علامة جزم . مداومتي تلك ، المستمتعة بالممارسة الملغزة ، العصيّة على مداركي الطفلة ، ما كانت هيّنة بحال . فالرعدة المسكونة بمتن عروقي جميعاً ، رافقها طرق عنيف على أبواب القلب ؛ طرقٌ ، كنت أخاله سيتطرّق ، عاجلاً أو آجلاً ، إلى سمع ذاك العتيّ ، المرهوب الإسم . من مكاني هذا ، المركون على مشارف سقف الحجرة ، العاشقة ، المشغول بجذوع الحَوْر ، والملاصق للبقعة الصخرية الرازحة ، بدورها ، بأسفل الغار ، الأسود ؛ من شقوق السقف إذاً ، كان عليّ كاتماً نفسي ، أن أشهدَ محتاراً ذلك العريّ الكامل ، الفاضح ، لشخصَيْن في ممارسةٍ لا تقلّ غرابة ً : فالمألوف لبصري ، قبلئذٍ ، رؤية الممارسة المثلية ، الإعتباطية غالباً ، لولدين بملبسيهما الكامل ، بإنزياح لكل من بنطاليهما إلى حدّ الركبتين . علاوة ً على أنّ تقابل هذين العاشقين ، وجهاً لوجه ، المتطاول ، كان يثير تساؤلي عن مغزاه ، وجدواه بالأخص . " هيا ، " جمّو " ! هيا ، عليكَ اللعنة ، أنتَ أيضاً ! " : ندّتْ بعيد ثوان اخرى عن إبن " الدقوري " ، صديقنا اللجوج ، وبصوتٍ حادّ ، متذمّر ؛ صوت ، أصدى على الفور ، كما يبدو ، في أذنيْ ذلك العملاق ، المرعب ، المنذور لحضوره ، العاشق ، حضورُنا السريّ .

الصورُ تختلط ببعضها البعض ، في المشهد العاري ، الصارخ : العملاق في منقلبه ، المفاجيء ؛ تحديقة عينيه ، المسددة نحوَ عينيّ ، والهائلة الوخز ـ كرمح خرافيّ ؛ البنت في إنفلاتها ، بدورها ، من ربقة العناق إلى نأي الزاوية الاخرى ، الأكثرَ تطرفاً ، في بقعة العشق تلك . صورٌ شذورٌ ، متهافتة من معدن الذاكرة ، الثمين ، الموشي مضاضة العمر ، الضائع . بيْدَ أنّ فرارنا ، لحظتئذٍ ، كان عليه الترسّخ ، أبداً ، في الذاكرة ذاتها ، الغضة ، والمتأثرَ تلك الصرخة القوية ، المريعة : " ولاه !! " ، الواقعة في الأذن الطفلة ـ كهزيم رعدٍ ، قاصفٍ . صرخة ٌ طلقة ٌ ، إذاً ، نفذتْ في فؤادي ، الواجف ، فشلّت حركتي ثمة ، بين أسنة الصخور ، وفي شقّ وعر من الجدار الطبيعيّ ، المشكل واجهة " المغارة السوداء " . هناك ، عليّ كان أن ألبث لساعات طوال ، دهريّة ، وعلى سكون مطبق من العِيّ والقلق والتوجّس والوجل . " سيقتلني ، والله ! سيقتلني ، لا محالة ! " : جاشَ داخلي بهذه الجملة ، المكررة . نجوتُ ، على كل حال ؛ شأن رفيقيّ ، الآخرَيْن . ولكنني ، فيما بعد ، بقيتُ على يقين ، جازم ، بأن عينيّ الرجل ، المرعب ، قد إقتنصتا ملامح وجهي ـ الشبيهة نوعاً بمثيلتها عند أخي العتيّ ، المعروف . هكذا ، كان على حضوري المواراة في ديمومة الحضور ، المحتمل ، لذاك العملاق العاشق ؛ خصوصاً في مكانه المعتاد ، على مدخل الزقاق ؛ أين محل الجزارة العائد لصديقه عمره ، " كرَم عربي " . إلا أنّ خرابة " رَزيْ آنيْ " ، كان عليها بدورها ـ كصديقة عمري ، أن تمدّ يدَ المساعدة . فها هوَ " البرزاوي " وشقيقي الكبير ، هنا في هذه الجنة ، الأرضية ، وفي يوم آخر ، جميل ، لا يشي بأيّ مفاجأة غير مرغوبة . الإطلالة المرعبة للرجل ، والتي سبق أن تجنبتها لأسابيع عديدة ؛ هيَ ذي هنا ، تقابلني ببشاشة ، منطلقة الأسارير ، غير مفصحة إطلاقاً عن ذكرى ما ، مستطيرة .

3
ثمة ، في الجبل الأول ، المكانُ الآخر ، الأثير ، لمعقد عصبتنا . أذكرها المرة الأولى ، المبهمة ، التي حكمَتْ إكتشافي للمكان هذا ؛ المعدّ نهاية الدنيا ، في عرف الطفولة وأساطير الكبار سواءً بسواء : كان ذلك ، على الأرجح ، في سني الخامسة ، لما رافقتُ أخي " جينكو " ، عبرَ المسالك الوعرة ، المبتده منها الشقّ السحيق ، المنعوت بـ " وادي سفيرة " . دليلاً إلى ذلك السراط ، المؤدي لخواتيم العالم ، قادني أخي يومئذٍ خلل الصخور المضاءة بفضة الهاجرة ؛ هنا ، أين الخلاء العظيم ، المقفر من أي كائن ، سوانا والقطيع المتلكيء بين الممرات العسِرة ، بحثاً عن بقع مستنبتة بالكلأ . على أنّ حضوراً آخر ، بشرياً ، ما أسرعَ أن تناهى صداه في هذه المفازة : كان ذلك صوت عمّنا ، الأجش الأليف ، المتشاغل في الحديث مع رجل غريب ، بدا من هيئته أنه راعي ذلك القطيع ، الهائم . إسْتقبلنا ببشاشة وترحيب ، ثمّ ما لبثنا أن إجتزنا البوابة المفتوحة في سور الدار ، المشكل من أحجار عشوائية ؛ حال البناء جميعاً . حجرة واحدة حسب ، قبيحة ومنفرة ، إحتواها البناء ؛ إنها حجرة ذلك الراعي ، كما علمنا فيما بعد ، ما دام عمّنا ، العتيّ ، المتعهّد المكان ، كان نادر التواجد هنا . وصفة " التعهّد " ، كانت مستحدثة في قاموس ذلك الزمن ؛ صفة المهنة ، المنتمية لتملك أراضي الخلاء ، والمحالة إلى الإعتباطية المجرّدة : فما على " المالك " ، إذاً ، سوى إختيار مساحة ما من الأرض البوار هذه ، كبيرة أو صغيرة ، وتسويرها من ثمّ بصفوف من الأحجار . سنوات خمس ، على الأثر ، ومشكاة فضولنا ستلزمنا إقتفاء أثر خطىً اخرى ، متوقلة صعوداً المنحدرَ الصخريّ ، الوعر ، المتبختر بإطلالته على أقدمَ حواضر الدنيا . وهيَ ذي " المغارة السوداء " ؛ الهنّ الضيّق ، البهيّ ، للحسناء الخلاء ، المفترشة ساقيها ، المصقولتين ، المتماديتيْ التناهي بين المدى الشرقيّ والغربيّ للجبل الأول . هنا ، كان عليّ أن أستعيد ملامح ذلك الراعي ، في إنصاتي لأسطورة قرينه ؛ المقرونة بهذا الغار ، الأغرّ .

قفزة ً قفزة ، تناهتْ النعجة الصغيرة ، الناصعة الصوف ، حتى وجدتْ نفسها وقد تاهتْ عن أخواتها في القطيع . بلا طائل ، راحت تثغو وقد كاد يجفّ حلقها من العطش ، فما كان منها إلى أن تتوغل في غمرة مسلك الغار ، سعياً وراء الرطوبة . الراعي ، كان بدوره يجدّ في المكان ، الوعر ، بحثاً عن تلك النعجة ، ليصل هكذا إلى مدخل المغارة ذاتها . صفيره ، المسدد نحوَ الأعماق العتمة للمسلك الموصول بالمدخل ، ما عتمَ أن لقيَ صداه . برهة اخرى ، قضاها الرجل في الإنتظار ، بما أن ثغاء حيوانه ، الصادر للتوّ ، كان علامة على تلقي ذلك الصفير النداء . آيسَ أخيراً من جدوى الصبر ، وها هوَ في طريقه عبرَ الغسف المشمول به المكان جميعاً . صوتٌ هادرٌ ، راح يتأتى رويداً من الأعماق العتمة ؛ صوتٌ ، أصدى عنه تمتمات نجيّة ، معوّذة ، على لسان راعينا ، في وجله من شرّ الأرواح الشريرة . مشام رطوبة ، عذبة ، إبتده وصوله ، شبه الزاحف ، إلى ما يشبه الحجرة ، علاوة على مضاءة ، خافتة النور ، صادرة ولا ريب من فتحة ما في أحد المنافذ . قدّر له ، إذاً ، أن يستعيدَ الطمأنينة ، وأن يواصل صفيره للنعجة ، الضائعة ، والتي على ما يبدو أضحتْ على مقربة من موقفه . الهدير ذاك ، الموصوف ، كان قد أضحى عندئذٍ مألوفاً لسمعه . بيدَ أنه ، في الخطوة التالية ، المصاقبة إطلالته عبرَ المنفذ ذاك ، المتأتي منه صدى الثغاء ، أذهله مرأى ما يشبه سيلاً من الفضة ، الخالصة المعدن ، لنهر دافق يلتمع بكل أبهته عند الطرف الآخر للمسلك ، والمقابل لموقفه . في اليوم التالي ، على الأثر ، عاد إلى المكان ثانية ً ؛ ولكن للمرة الأولى ، كان بلا قطيعه . " لن أسعى خلف الحيوان من بعد ، أبداً . سأصبحُ مزارعاً وأغتني ! " ، ربما هذا ما كان يردده في نفسه يومئذٍ ، ما لو صدّقنا الأسطورة ؛ والتي تجزم ، على كل حال ، بأنّ الشق الأول من رغبته قد تحقق ، فعلاً .

4
طريقنا إلى خرابة " بكرو " ، كانت تمرّ إذاً بذلك الغار ، الغامض ، المتصدّر واجهة الجبل من جهة الحارَة ؛ والمنعوت أزلاً بـ " المغارة السوداء " . صعوداً حتى البقعة هذه ، كان علينا أن نمرّ بالأزقة الوعرة المسالك ، العشوائية المساكن ؛ وهيَ المشمولة من أهلينا بنعت " حارة الدروز " ، الجامع لصفة أهليها . في غدونا ورواحنا ، عبر أزقة الحارة هذه ، الرثة ، إعتدنا ملاقاة ساكنيها أولئط ، صغاراً وكباراً : إنهم بدون ريبٍ ، غيرَ أشخاص الأسطورة ، الغرباء ، الذين ظهروا لذلك الراعي ، ساءلينه بيعَ قطعة الأرض ، التي كان ينوي إستزراعها ، عارضين عليه مبلغاً من المال ، جسيماً ، ما عتمَ أن حركَ طمعه ؛ حدّ أنه إطمئن إليهم حينما طلبوا منه أن يصطحبهم إلى داخل الكهف ، كيما يروا بأعينهم مصدرَ الريّ ذاك ، المعجزة . ولكنّ الغرباء ، ما عادوا في اليوم التالي ، كما وعدوا راعينا ؛ وهذا ، بالمقابل ، لن يكون عليه أن ينتظرهم ، طالما أنه إختفى بدوره أبداً . أغراب الحارة ، الجدد ، أناس مسالمون ؛ وكذلك الأمر مع أولادهم . كنا نمرّ بالمسالك هذه ، حيث جمهرتهم ، المألوفة ، على عتبات الدور غالباً ، ودونما حاجة منا لأيّ حيطة ، منذرة بمشادة أو كمين . ولكن طفولتنا إستهجّ بها مع ذلك ذكر غرباء الأسطورة ، الغامضين ، فما كان لنا إلا إستعادة إسطورتهم ، في كل مرة حتمتْ مرورنا بأزقة الأغراب ، الدروز . حتى إذا خالطنا أولادهم في المدرسة الإبتدائية ، فقد تبددتْ نهائياً تلك الذكرى ، الموصوفة ، وحلّ عوضاً عنها نوعٌ من الإلفة والود تجاههم ؛ ثمّ ضافرَها ، لاحقاً ، الأفكار الماركسية التي جمعتنا بالكثير منهم . وها نحن ذا هنا ، في إحدى الأزقة الدرزية تلك ، على طريق الطفولة المفضي إلى حضرة الكهف ، الخرافيّ ؛ أين المواطيء الصديقة لأقدام عصبة الزقاق ، العتية ، من رفاق أخي . على مدخل الغار ، يعمد كل منا إلى إخراج كوزه ، الهادي : إنها ثمرة يقطين ، مجففة ، ومنحوتة بعناية ، مثبت في قاعدتها شمعة نحيلة ، يعيننا ضوؤها الخافت ، الواهي ، في تلمس المسالك المظلمة للكهف . وكنا في إنشغالنا هذا ، لما تناهى إلينا صدى جلبة قوية ، متأتٍ من الداخل .

ـ " أنتم تجدّونَ بأثر جماعتكم ، أليسَ كذلك ؟ إنهم في " الأوضة " ، وقد تركناهم للتوّ "
خاطبَنا " حمّشك " ، بغير مبالاة ، وبدون أن ينظر إلى أيّ منا . إنه رأس عصبة زقاق " الكيكية " ، وكان على خلاف مع أخي ، مؤخراً . ومبعث خصومتهما أنّ " جينكو " قد جلب إلى جهته عدداً من أقاربنا من تلك العصبة ؛ وهم " شيْر " و " زيدان " و" مزكَين " و " كنّك " ، وبالرغم من أنهم يقطنون في ذلك الزقاق . لم نبال باللقاء هذا ، البارد ، بل أوقدنا على الأثر أكوازنا وشرعنا في ولوج الكهف خلل مدخله ، الواسع . مسلك تمهيديّ ، يتلقف الدالف هنا بكل يسر ، كونه مشابهاً لدهليز رحب ، وعلى إرتفاع مناسب . على أنّ المجال يبدأ من ثمّ في التقلص ، حتى يغدو كنفق ضيّق ، ذي رهبة ، يتوجّب على المرء إجتيازه زحفاً في مواضع عدة منه . بيدَ أنّ الأصوات الصديقة ، ما لبثت أن أصدَتْ حبوراً وطمأنينة في نفوسنا . فما هيَ إلا برهة اخرى ، وتناهى إلينا نداء أخي ، المميّز في لهجته ، الآمرة ، يدعونا إليه في البقعة تلك ، الأثيرة ، الموسومة من لدنا بـ " الأوضة " . وباللهجة نفسها ، كان عليه بعيد دقائق حسب ، أن يلزمنا بإنتظاره هنا . فإن أولئك الملاعين ، من عصبة " حمّشك " ، قد شرعوا في إيقاد النار بمدخل الغار ، وها هوَ الدخان على الأثر يتسلل إلى أنوفنا . ما كان من بأس علينا ، على أيّ حال ، ما فتأت مسالك الكهف متعددة ، وفيها بعض المنافذ . و" الأوضة " ، أيضاً ، حظيتْ بمنور مناسب في زاوية متطرفة من سقفها ، العالي نوعاً : نحوَ المنفذ هذا ، سبق لبصر " فوفو " أن راحَ في إنشداهٍ مبين ، متطاول ، تخلله ما كان من رعدة بدنه ومن ثمّ هذيانه . كان ذلك في إحدى فتوحاتنا ، الجبلية ، المصاقبة لصيف العام المنصرم ، لمّا إنتشلناه ، هنا في الغار ، وفي ذلك المكان المعروف بـ " الجبّ " ؛ وهوَ هوّة بالغة الإرتفاع ، تقع مباشرة على طريق النفق ، ويمكن تجاوزها بالزحف حول حوافه المسننة . إنها الحواف نفسها ، التي تشبث بها يومئذٍ إبن " حج عبده " هذا ، مذعوراً ، بعدما سهى عن مهلكتها ، وكاد أن يهوي فيها ؛ الهوة ، التي إعتقدنا دوماً أنّ الراعي ذاكَ ، المفقود ، قد دُفع إليها بسحر أولئك الغرباء ، الملغزين : " الشيخ ! إنها لحيته تخدش وجهي ! رحماكم ، أخرجوني من هنا ! " ، كان صديقنا ، المسكين ، يصرخ وقد جحظت عيناه المشدوهتان ، المثبتتان بذلك المنفذ ، المنير ، المعلق في سقف حجرتنا ، الأثيرة . على أنّ " فوفو " ، في يومنا هذا ، كان بكامل حيويته وصفائه ، لما خرجنا من النفق ، إثرَ تململنا من الإنتظار داخلاً . هوَ ذا ثمة ، تحت ظلال الجدار الصخريّ ، الهائل ، القائم فوق الغار ، بصحبة الآخرين ، وقد بدأ قريبه ، إبن " سنجو موسو " بالشروع في موال كرديّ ، كلاسيكيّ ، بصوته الشجيّ . هناك ، فوق مشهد دمشق ، الساحر ، المنبسط تحتنا بأحيائه وغوطته وريفه ، أينَ تناهى الشجو ـ كشيمة برق ، طاريء ، في سماءٍ رائقة ، متضجرة .

5
عصبتنا ، الفتية ، كانت على موعدٍ مع مغامرة اخرى ، وهذه المرة فيما وراء الجبل . ما كان بلا طائل تجَشمُنا عناءَ المضي إلى الجهة تلك ، المجهولة وقتئذٍ من لهف فضولنا . فموعدنا هذا ، له صلة بحكاية كنز . رفيق عصبتنا ، " نهال " ، دأبَ على مرافقتنا في هكذا مغامرات ؛ إلا في هذه المرة ، على كل حال ، وبمشورة من " أيسَر " ، إبن خاله . هذا الأخير ، كان معي في يوم سابق ، لاهٍ ، من تلك الأيام المعطلة ، المصيّفة ، حينما رأينا " حسو شكري " يطل من باب بيته ، فلا يلبث أن ينده علينا لأمر ما . وبما أنني وصديقي ، على علاقة طيبة بهذا الرجل ، كوننا من الصبيَة المسالمين ، غيرَ المتعرضين بالأذى لولده المسكين ، المغوليّ الإعاقة ، فلا بأسَ علينا إذاً من تلبية دعوته . في صالة الضيوف ، كان بإنتظارنا مجلدٌ حائل اللون ، مفتوح على صفحات مخطوطة : " آه ، إنه كتاب الكنوز ، إذاً ! " ، رمقنا بعضنا البعض بهذه الفكرة ، الخبيثة . كان المتعيّن علينا ، بحسب طلب الرجل ، نسخ بعض الصفحات وحسب . وهذا ما قمنا به ، بكل طيب خاطر ، خاصة ً لما وُضِع أمامنا على المنضدة خوان بلوريّ ، مترع بعنب كرمة الدار ، الكبيرة . مزيداً إكرامه لجهدنا ، قامَ جارنا بعدئذٍ إلى أهله خارجاً ، موصياً إياهم بإبريق شاي . " ربّاه ، ماذا فعلتَ ؟! " ، ندتْ عني همساً ، مستنكراً قيام صديقي بإنتزاع ورقة من المخطوط ، ومن ثمّ دسّها في حنايا بنطاله .
ـ " صَه ، تمالك حالك ! ألا ترى أنّ الكتاب غيرَ مرقم ؟ " ، قالها " أيسر " بدوره في صوت هامس ، حذر . أنهينا مهمتنا أخيراً ، دونما أن يلحظ الرجل المضياف ما يريب في مسلكنا ؛ هوَ غيرَ المتناسي حرصه ، لما نبهنا عند الباب بلطف ، ألا نذيع على الآخرين شيئاً يتعلق بالمجلد الخطير . ما جهله جارنا هذا ، الذي يعمل حارساً ليلاً في حيّ آخر من المدينة ، أنّ الزقاق جميعاً كان يلهج آنئذٍ بعمله الآخر ، السريّ . كان والد " نهال " ، جاره وصديقه الحميم ، رفيقه الوحيد في جولاتٍ دؤوبة ، موعدها أيام العطل الرسمية ، متناهية بهما بين مغارب جبلنا ومشارقه ، بحثاً عن الكنوز الآبدة ، المدفونة .

" معرَبا " ؛ وادٍ من زرع نضر ، وبراري مخضوضرة بأشجارها المثمرة وبلوطها وبطمها وجمّيزها وسنديانها . إنها قرية مزدهرة ، شأنَ أخواتها في برّ الشام . الورقة السريّة هيَ ذي ، تتنقل من يدٍ حائرةٍ إلى اخرى ، ما فتأنا ندور في مسالك الوادي هذا ، الوعر ، سعياً لإقتناص لمحة من مخروط صخريّ ما ، من المفترض تناهضه هنا ـ كعلامةٍ يقين ٍ . " الإشارة " ، نعتُ الصخرة تلك ، كما وردَ تسميتها في الكتاب ، وأنها الدليلُ على وجود غار يحتبي كنزنا بحنو صدَفةٍ على ربيبتها ، المحارة اللؤلؤة . إنشغلنا عن اليأس والإحباط ، بما في أيدينا من مشاغل صيد الطيور الغضة ، النادرة ، كما وبإستخراج وفرة من نباتٍ متبطن التربة ، ندعوه " حَوْر صنين " ، طعمه حلو على حموضة ، مطيّبة . ويبدو أننا كنا في طريقنا للقرية تلك ، بعدما آيسنا من العثور على الموضع المُرتجى ، لما حاذينا في مسيرنا تلة محاطة بأسلاك شائكة ، يتناهى من قمتها هوائيّ رادار عسكريّ . " الإشارة !! " ، صرخَ إبن الفران ، وعلى حين فجأة ، مشيراً بيده القوية جهة صخرة منيفة ، ملتوية على نفسها بهيئة مخروطية لا لبس فيها . وما عتمنا أن رحنا نخوض في أرجاء المكان ، وبحمية متحمّسة . هكذا ، ودونما بذل مزيد من الوقت والجهد ، تمّ الإهتداء إلى بغيتنا : الغار هذا ، الغابر ، هوَ عبارة عن فجوة واطئة ، يحفّ بجبينها إكليل شوكيات . ولكنه كان من الضيق عند المدخل ، أنّ محاولة الولوج منه للداخل بدتْ أمراً يمتّ للمحال . " جمّو " ذاكَ ، وبدالة عتوته ، إتجه هذه المرة إليّ ، ليقول : " إنكَ الأكثرَ نحولاً بيننا ، فحاول الإنسلال بجسدك .. إذا أردتَ " . بيدٍ تقبض مديَة واخرى محمّلة بالكوز الهادي ، بدا إنسلالي خلل مبسم الكهف ، المتعنت ، ميسوراً وهيّناً في واقع الحال . دقيقة اخرى من الزحف الحثيث ، وإذا بعينيّ وقد إعتادتا العتمة ، يبهرهما لمعان فضيّ ، ألق ، أخذ رويداً بإضاءة جوانب الجدران الصخرية . مرعوباً بصفةٍ قصيّة ، لا توصف ، رأيتني أنسحب عائداً القهقرى ، وقد تمثل لعينيّ على الفور لمعة ٌ من سحنات الغرباء الغامضين ، الملعونين . " الماء ! رأيتُ الماءَ بعينيّ ثمة ؛ نهرٌ أو ساقية ، ربما ! " صحتُ بجمع عصبتنا ، المحدق بالمدخل وفي يد كل منهم سلاحه . في وجوم الموقف ورهبته ، إنتبهتُ من جهتي إلى حجر ما ، في قبضة أناملي ؛ حجر غريب الشكل ، مدبب الرأس ، عليه نقشٌ يتمثل علامة الصليب أو الخنجر . وما قدّر لي ، أبداً ، أن أفسرَ لغز لقية طفولتي تلك ؛ وما إذا كانت قد وقعت بيدي سهواً ، لحظة إنسحابي الملهوج ، خاصّة ً أن المدية ، العتيدة ، فقدت مني عندئذٍ وكذلك الأمر بالنسبة للكوز ، الهادي .

للحكاية بقية ..

Dilor7@hotmail.com



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
- من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
- طيف تحت الرخام
- زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
- زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
- جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
- الحل النهائي للمسألة اللبنانية
- زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون
- أشعارٌ أنتيكيّة
- زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه
- أبناء الناس
- الحارة الكردية والحالة العربية
- زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه
- بابُ الحارَة ، الكرديّة
- فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية
- أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
- زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله


المزيد.....




- “Ang Mutya ng Section E“ مسلسل جوهرة القسم اي الحلقة 10 مترج ...
- مهرجان -فاس للموسيقى العالمية العريقة- يستضيف إيطاليا ويكرم ...
- -الحجاج- لفيكتور فاسنيتسوف تعرض في مزاد علني في موسكو مقابل ...
- -المداح-.. طلاسم سحرية تفتح باب الجدل في مصر
- من القصر الملكي إلى -نتفليكس-.. ميغان ماركل تكشف عن فصل جديد ...
- الشيخ الحصري.. مسيرة حياة كرست لخدمة القرآن الكريم
- إطلاق الكبسولة (مقطع مسلسل من رواية قناب ...
- -زغرطي يا شيرين!-.. حسام حبيب يعترف لرامز جلال: -أنا اللي دم ...
- مكسيم خليل يروي كيف اتهمه نظام الأسد بتهريب السلاح
- الإخبارية السورية تكشف تفاصيل خطيرة حول التطورات الدموية في ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء