أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه















المزيد.....


زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2081 - 2007 / 10 / 27 - 03:15
المحور: الادب والفن
    


1
ـ " لا تحص عددَ النجوم ، كيلا تملأ الدمامل يديكَ ! "
قالت لي أختي ، الأكبرَ مني سناً ، فيما كنتُ أمدّ بصراً ، حذراً ، نحوَ قبّة الليل الزرقاء ، المُنجمة ، المخيّمة على رقدتنا الصيفية ، المعتادة ، على سطح حجرة الحديقة ، الوطيء . عدّ الأنجم ، هوَ مختتمُ طقس السهرة ، اليوميّ ، والمستجلِبُ إغفاءة مؤكدة لجفوننا ؛ طقس ، يبتده في العادة ، أيضاً ، بحكايا خرافية ، مشوّقة ، من لدن " جينكو " ، يعقبها أسئلتنا له ، الملحاحة : " هل حقاً ، كما يقال ، أنه ثمة شبحٌ طيّب ؟ " ، أقذفُ كلمتي دفعة ً واحدة ، مستبقاً الآخرين . كنا آنذاك ، في محكية لساننا الأمّ ، نعرّفُ الطيفَ ، أو الشبح ، بالمفردة الكردية " بيْرعَبوكيْ " ؛ تعريف ، عَرَفنا بطبيعة الحال ما يقابله بالمحكيّة الدمشقية ، ( " الزيارة " ) ، والذي أضحى متردداً على لساننا ما شاءَ له منقلب الحال . " الشبحُ الطيّب ، هوَ من يحرسَ رقادنا ، ليلاً ؛ أما الشرير ، فإنه يكادُ لا يفارق الخرابات " : يجيبني أخي ، محاولاً كدأبه دوماً بثّ الطمأنينة فيمن حوله . " ولكنّ شبحَ خرابة " رَزيْ آنيْ " ، بمقدوره التسلل إلى دارنا عبرَ البئر القديمة ؟ " ، أعودُ للسؤال ثانية ً هارباً بعينيّ مما يتراءى لهما من أشباح أشجار الحديقة ، المحاذية لرقادنا . " وإذاً ، ما على الشبح الطيّب إلا التصدّي له وطرده ؛ وحينها ، سيقول ذلك الشبح الشرير متضرعاً : أرجوك دعني أذهب إلى أمّي ، وأقسم لك أنني لن أعود لإقلاق نوم الأطفال ، أبداً ! " .

قبل أن ينتقل يتامى خالتنا ، المرحومة ، إلى منزلهم الأول ، إتفاقاً مع خروج أبيهم من " القلعة " بعفو عام ؛ قبل ذلك بأشهر عشرة ، على وجه التقريب ، حلّ أناس آخرون فيه . ما كان مالك المنزل ، الحقيقيّ ، سوى إبن عمّنا ، الكبير ، والذي قسّمه إلى بيوتات عشوائية ، منذورة للإيجار ، محتفظاً لنفسه بالقسم العلويّ ذي الشرفة الوحيدة . أسرة من المستأجرين إذاً ، غريبة عن الحارة ، ربطتها بإبن العمّ هذا صلة قديمة ، ترجع لزمنه ، المهيب ـ كرئيس لمخفر " سَرْغايا " ؛ بلدة الإصطياف ، المعروفة في برّ الشام . هذه الصلة ، الموصوفة ، كانت من الحميمية أنّ الأسرة ، المستأجرة ، ما لبثت أن إنتقلت إلى رحمة القسم العلويّ ذاك ، من المنزل . وإلى تلك الآونة ، على كلّ حال ، تنحاشُ ذاكرتي في كلّ مرة ، متطلبة ، لإستعادة كابوسي ، الأول ربما ، والمتهيء لعمري فيما هوَ محتجلٌ على أطراف أعوامه ، السادسة : رأيتني مع " وليد " ، في فلاة ما ، وقد أغسى ليل بهيم على وحدتنا ؛ حينما باغتنا على حين غرةٍ ما يشبه الوحش أو الكائن الخرافيَ ، فيهربُ صديقي ، بسعد فأله ، وأبقى لوحدي بمواجهة الخطر المتجسّد ، خطوة َ خطوة ، بصورة مرعبة ، داهمة ، لأسدٍ مبين ! رفيق الكابوس ، ما كان سوى صبيّ جيراننا الجدد ، الوحيد . شقيقتاه ، اللتان تكبرانه سناً ، تصادقتا بدورهما وبنات أسرتنا . صغرى الشقيقتين ، كانت واثقة بنفسها ، حدّ إقتحام ألعاب أولاد الحارة . وهيَ من فجأتنا ، ذات مرّة ، بمديح قائد الإنقلابيين ، الجدد ، وتشنيع خلفه ؛ الرئيس " ناظم قدسي " ، بتحريف بذيء لإسمه ، قائلة بكل بساطة : " إنه ناظم كـ ... ـي !! " . بيْدَ أنّ هذه البنت ، الجريئة حقاً ، أصبحت علاوة على ذلك رفيقة تجربة العمر ، الأولى .

2
ـ " لنلعبَ هنا ، فما حاجتنا بالحجرة تلك ، الضيّقة ، تحت الدرج ؟ "
ـ لأننا سنجرب لعبة جديدة ، ممتعة ! " : ردّت عليّ البنتُ ذات الشعر الأحمر ، المنسدل على وجه بهيّ ، مرقش بالنمش . كانت دوماً متحفزة ومتوثبة للمجهول ـ كما يجدر بريفيّة متوطنة المدينة . عنادها في إقتحام الرفقة ، الذكورية ، تناهى حدّ فرضَ ألعابها علينا . من جهتي ، ما عدت وقتذاك أهتمّ بصحبة البنات ؛ وتحديداً ، على أبواب السادسة من عمري ، التي سبق أن جلبتْ لأمّي مفاجأة غير سارّة : فبعدما خلعوا عني ، أبداً ، ملبس الأنوثة ، المتعيّن عليه مماهاتي عن العين الشريرة ، إصطحبني والدي مباشرة ً إلى دكان قريبنا ، الحلاق . لما عدنا للمنزل ، وحالما وقع بصر الأمّ على هيئتي ، الجديدة ، صرخت برعب وإنفعال : " ويرَبّنيْ ! " ( ربّاه ) ، متبعة ً كلمتها ببكاء مرير . مغضباً ، صرخ أبي بها : " وهل سيذهب الغلام إلى المدرسة ، غداً ، بضفيرة مسترسلة على ظهره ؟ " . هكذا كان منقلب حالي ، في ذلك اليوم الصيفيّ ، القائظ ، حينما عُرضت عليّ لعبة ما ، جديدة ، من لدن شقيقة " وليد " تلك ، التي تكبرني بأعوام ثلاثة . تولعها بي ـ لو صحّ التعبير في حالة العمر ذاك ، المبكر ـ أضحى مبعثَ تندّر شقيقاتي الكبيرات ، مما كان يجلبُ بَرَمي وسخطي . وإذاً ، خلف بئر الدَرَج ، المؤدي إلى عليتهم والمشكل ما يشبه الحجرة الصغيرة ، المهمل فيه ما يتصرف عن لوازم المنزل الكبير ؛ هناك ، في عتمة يكاد لا يغشاها نور الظهيرة ، الفاضح ، جذبتني ذات الشعر الأحمر إلى وسطها ، في ضمّة شديدة ، مديدة ، لم أفقه معنىً لها .

في المرات الاخرى ، صار الأمر أقل مشقة وحرجاً ؛ بل وحلّ فيه نوعٌ من لذة شفيفة ، غامضة ، سَرَت رويداً في كياني جميعاً . إلى أن حلتْ ، وعلى عجالة من أمرها ، ظهيرة ذلك اليوم من أواخر الصيف ، المتحتم فيه على " لعبتنا الجديدة " ، الكفّ عن المضيّ إلى فصول اخرى : كنتُ ورفيقتي في مكان لقائنا ، السريّ ، معتنقيْن بلا أيّ نأمة ـ كما هيَ أصول لعبتنا ، الموسومة ، لمّا أُخذنا ، وعلى حين غرة ، بإطلالة رأس شقيقتها . فرتْ البنت الجريئة من المكان ، متضاحكة ، فيما لبثت بنفسي مطرقاً والخجل يمحق بلهيبه قسماتي : " أنتَ ؟ ونحن من كنا نقول ، أنك أكثرَ أولاد الحارة أدباً وتعقلاً ! " . ولكن أسرة " وليد " ، لم تمكث إلى أبعد من صيف الإكتشاف الأكبر ، هذا ؛ إذ إنتقلت مجدداً إلى منزل للإيجار يقع هذه المرة في الجهة الغربية من الحيّ . ما هيَ إلا أيام أخر ، وأطلّت على الزقاق جارة اخرى ، جديدة / قديمة . فمن بيت أهل زوجها ، الراحل للتوّ ، الكائن في " زقاق آلرشي " ، وإلى بيت أهلها ، في زقاقنا ، إحتملت إمرأة صبية بعد ، تركة ً من ولد وإبنة ، صغيرين . تركة ثقيلة ، بدا أنّ الأرملة تتعثر بها في مهبّ حياةٍ ، بالغة الصعوبة ، ما فتأ رجلُ آل " حج عبده " في مستهلّ أعوام حريته ، الأولى ، بعد خروجه من " القلعة " . منزل الجارة الجديدة ، " أمّ غسان " ، النحيل الدقيق ، كان قد إقتطعَ من بيت أبيها ذاك ، الوافر المساحة ـ كعلامة على إستحالة عيشها مع إمرأته .

3
ـ " كلّ يوم عيدٌ ! "
كان يهتف صاحبُ " الدويخة " ، المنصوبة على طرف " خرابة أبي رسلان " . العيد الصغير ، الخاتم بفرحته شهراً كاملاً ، كئيباً ، هوَ الأكثر حظوة ً لدينا . ثمة ، في البقعة المتربة تلك ، شبه الممهّدة ، المتاخمة لمدخل الحارة ، المرفوع جسراً على نهر " يزيد " ؛ هناك عيدنا ، الحافل ، أسطى على كل ما عداه ، ما فتأت ملاهينا ، العشوائية ، مرابطة بأراجيحها وقلاباتها ودويخاتها ومركباتها وعجلاتها ودكات بائعيها ومنصات مشعوذيها وسحارات مقامريها . عند هؤلاء الأخيرين ، إعتاد أخي الكبير على المرابطة بدوره . كان ماهراً في أصول ألعابهم ، وغالباً ما يغادر المكان وفي جيبه عراكٌ ، صاخب ، من عملة حديدية . بيدَ أنه ، وبالرغم من سنه المبكرة ، ما كان يتحاشى عراكَ المقامرين ، الأكبر سناً ، والباعث شياطينه الصغيرة من رقادها. ولا بدّ أنّ صرختي ، الثاقبة : " جينكووو ! " ، قد تناهت إليه مباشرة ً أو عن طريق آخرين ؛ إذ ما أسرعَ أنّ إنتصبَ أمامي بقامته المتينة ، كما وبدبسته المهولة : " ما الأمر ؟ " . أجبتُ ، متلعثماً ، على السؤال المشتعل : " إنه يبغي ... ضربَ " غسان " ! " . ملتفتاً إلى من عنيته بإشارتي ، إستلّ " جينكو " لمحة ً من سحنة شخص ينتحل مبلغ الرجال ، ويكبره بأي حال سناً . كانت سحنة قبيحة ، مفصحة عن خبثِ شرير ، فاسق ٍ . وفهمَ شقيقي " بغيته " ، على ما يبدو .

في دورةٍ من دورات لعبتنا ، الأثيرة ، التي تدور مثل رحى المطحنة ، كنت إذاً ورفيقي " غسان " ممتطين صهوة " الدويخة " ، حينما قفزَ هوَ من مقعده إلى الأرض ، لينهدّ هناك وعلى وجهه صفرة الدوار . لم يحرك صاحب " الدويخة " ساكناً ، وإنما أحد صبيَته ، المعاونين ، من بادر للإنحناء على رفيقي . كان هذا الشخص يحاول مساعدة ً ، كما تهيأ لي . ولكنّ صرخة " غسان " ، المتبوعة بدفعه لذلك الصبيّ الممعن في جرّه إلى جهة ما ، أيقظتْ على الفور إسمَ الشقيق الكبير على لساني ؛ " جينكو " ، المندفع الآن في حمأةِ عراكٍ طاحن ، إغبرّتْ بفعله البقعة المعيّدة بأسرها . بنتيجة المنازلة ، المنقضية ، كان لا بدّ أن يضحيَ " غسان " ، الذي يماثلني في السنّ ، من أقرب الأصدقاء إليّ . وكانت أمّه ، في عصر اليوم نفسه ، هيَ المحتفية بيَ بسكاكرها ، بعدما أُخبرتْ من لدن شقيقها بواقعة العراك ، نظراً لتصادف وجوده في مكانه وزمنه . ما كان بمقدور إشارات " غسان " ، يومذاك ، إحاطة أمّه بتفاصيل الواقعة تلك ؛ هوَ من كان لسوء طالعه أبكمَ وأصمّ ، بحكم الولادة . كان يتيماً ، إذاً . فوالده ، الضابط في الجيش ، سبق لجسده وتناثر مزقاً بفعل قنبلة يدوية ، أثناء إحدى التدريبات . باب بيت جارتنا ، الجديدة ، كان يقابلُ مباشرة ً باب دارنا . فمن حسن طالعي ، آنذاك ، أنّ تكون الإطلالة الدائبة للمرأة الشابّة ، هيَ أول ما يطالعني به اليوم ؛ الإطلالة ، الجهيرة الحسن ، المختتمة إياه أيضاً .

4
" أمّ غسان " ، خصتني إذاً بموّدةٍ وكرَم ، نادريْن في واقع الحال ؛ واقع حالها مع أهل الزقاق وأطفالهم ، الملتحم بخصام أزليّ . " إبني إسمُه " غسان " .. يا صعلوك ، يا إبن الحرام ! " : كانت الأمّ ، المغتاظة ، تهتف بحدّة لهذا الولد وذاك ، بين كلّ فينة من نهاراتها واخرى . من جهتي ، فلمْ أجار لداتي مرّة قط ، بما إعتادوه من إشارتهم للولد الأخرس ، المشنعة عليه بلقب " أوء " . ربما أنه سببٌ كاف ، فضلاً عما سلف من واقعة العراك ، المعيّدة ، لكي ترحّب " أمّ غسان " بحقيقة كوني الصديق الوحيد لصبيّها هذا ، الوحيد . ما جازَ لها ، على أيّ حال ، العلم بواقعة اخرى ، أدهى ، تفتقتْ للصديقيْن بعد عامين ، على الأثر : إذ كنتُ و" غسان " ، في صبيحة نهار ألق ، صيفيّ ، في جولة أثيرة ، معتادة ، خلل بساتين حارتنا ، الساحرة ، تأثراً خفياً لخطى " جينكو " وعصبته ، المتوغلة ثمة . ما أسرعَ أن رأيتنا نضيّع أثرَ جماعتنا الصديقة ، في خشوع نهمنا أمام تينة السبيل ؛ الحارس العملاق لمدخل " الباب الصغير " ، الحجريّ الواطيء . وأستعيدُ من تلك الأويقات ، السعيدة ، ما كان من مكوثنا هناك في القلب الأخضرَ لسلسبيل الجدول ، الضيّق والدافق في آن ، المشكل بدورانه حروفَ نعتِ " الدايرة " ؛ إسم بقعة الجنة ، هذه. بماء الجدول إذاً ، العذب المبترد ، راحَ كلّ منا يرطب شفته الرقيقة ، المتورّمة بالحساسيّة ، جزاءَ مجزرته بحقّ ثمار التين ؛ الماء نفسه ، الما عتمَ أن خالطته ظلالٌ ثلاثة اخرى ، دخيلة .

ـ " ولكنّ " أوء " ، يا هذا ، ليسَ قريبكَ ؟ "
ـ " مهما كانَ ، إذا لم تتركوه وشأنه لأشكونكم لأخي " جينكو " ! " : عبثاً بدتْ مجادلتي لأفراد من عصبة ، سرسريّة ، متنسّبة لزقاق " آلرشي " ، المجاور لنا ؛ هؤلاء اللاهثونَ بسفالة حلقتهم ، المحكمة ، المضروبة حول صديقي المسكين ، المستضعف . أمسكوا في الحال برفيقي ، طالبين مني بالمقابل أن أدع المكان من فوري . في وميض شفرات المدى ، المشهرة إرهاباً ، بدا وجهُ " غسان " ، الجميل ، حائلَ اللون ممتقعه . وَجلاً مرْجَفاً مُستعطِفاً ، أخذ صوتُ البائس يُصدر ما يُشبه ثغاء خروف ، صغير ، أمام ذئاب ضارية . تحركتُ أخيراً ، وببطء ، بإتجاه مدخل البستان . ولكنّ صيحة إستنجادٍ متطاولة ، مريرة ، جعلتني أتلفتُ بغير وعي حولي ؛ ثمّ ما لبثتْ حجارتي ، على الأثر ، أن إحتدّت بدورها . لحظة اخرى ، مرّتْ ؛ وبغتة ، إنفضّ جمعُ العصبة ، الغاشمة ، متهافتاً ومتهاتفاً للفرار : " ماذا تريدون من الولد ، يا حثالة ؟ " ، كان هذا صوتُ " جينكو " ، المميّز ، المفعم بالقوة والتحدّي . على الأثر ، ما كان لـ " غسان " إلا أن يشفقَ عليّ من ثورة أخي ، الموقعة على خدّي صفعة معاقبة . بدا إمتنانه لي ، جلياً ، في نظرة الإكبار ، الموسّعة عينيه المرسومتين بقلم الحسن ، كما وبدموعه المنثالة طوال طريق إيابنا . ولكنني ، بأيّ حال ، تجاهلتُ مبعثَ الصفعة تلك ، فيما أنا على إصراري في المضيّ بأثر " جينكو " ؛ هذا المنتهبة خطواته دروب البستان والجبل سواءً بسواء ؛ خطواته ، المنتعلة خفّ الحريّة ، الأكثر خفة ، مذ ذاك اليوم ، الربيعيّ ، الذي أفاقت في صبيحته عائلتنا على حقيقة إختفاء أثر الأب .

5
قبل شهور ستة من بلوغي سنّ المدرسة ، الإبتدائية ، أفاقت العائلة ذات صباح ، ربيعيّ ، على هدير صاخب ، من خطبٍ وموسيقى ، متأتّ خلل جهاز مذياع الجدّ ، القديم ؛ هدير ، ما عتمَ أن إتخذ شكل طلقات نارية ، خفيفة وثقيلة ، ملأت الفضاء وأسماعنا . " إنقلاب ! " ، صرخ أحدهم من أعلى سطح منزله ، فيما هوَ يمدّ يده جهة مركز المدينة ، زاعماً رؤية سحب الدخان ، الكثيفة . متأثراً خطى أختي الكبيرة ، المصّاعدة لتوها على الدرجات الإسمنتية ، الضيّقة ، مضيتُ من فوري نحوَ سطح دار العمّ ، وفي كياني فضولٌ يتراقصُ جذلاً وغبطة . ولكنّ صيحة شديدة ، مغضبة ، سمّرت خطوي : " إلى أين ، يا هذا .. يا قرد !؟ " . كان عمّي بنفسه ، يطلّ اللحظة بقامته ، الفارعة ، عبْرَ نافذة حجرة نومه ، العلوية ، المفضية للسطح ذاك ، المحارب . شقيقتي ، الشقراء ، دبّ فيها رعبٌ طاغ ، ما لبث أن قاد قدميها ، طائعتين مستسلمتين ، إلى حيث مصدر الصوت ، العتيّ . ما أن أصدى في سمعي ، على الأثر ، وقعُ الصفعة ، المُجزيَة عناء الفضول ذاك ، حتى وجدتني هارباً لا ألوي على أحد ، مندفعاً بإتجاه الباب المفتوح على دهليز دارنا . ثورة العمّ ، الموصوفة ، كان سببها ، على الأغلب ، شيئاً آخر ؛ غير غيظه المعتاد ، التقليديّ ، من جرأة الأنوثة : كان مجرّد تردد إسم " ثورة البعث " ، في بيانات الإذاعة الإنقلابيّة ، كفيلاً بإثارة هواجس عمّنا ، المُحالة إلى تلك الأنباء عن المجازر اليومية ، المريعة ، الحاصلة وقتذاك في عراق الثورة ؛ المجازر ، المرتكبة خصوصاً بحق الشيوعيين : ربما تذكر ، للحال ، شقيقه الأصغر وما يمكن أن يكونه مصيره .

ـ " إنه الآن في لبنان ؛ أو في الطريق إليه ، خفية ً "
همستْ السمراء لتوأمها ، المزعوم ، تخبرها بما سمعته من الكبار عن إختفاء الأب . يقظة اليوم التالي ، إذاً ، كانت محمّلة بمفاجأة اخرى لمنزلنا ، المتأزم أصلاً ؛ مفاجأة ، منذرة بالأسوأ ، بما إستجدّ خارجاً ؛ حينما هُرعنا عند الظهر على صيحات جزعة ، متهاتفة : " منع التجوّل ! " ؛ صيحات ، تبعها تدفق مركبات عسكرية ، مجنزرة ومدولبة ، زاحفة رويداً في جادات الحيّ . ولن تفارق ذاكرتي ، تلك الصورة الضبابيّة ، الغامضة ، التي إالتقطها بصري يومئذٍ للزقاق المهجور من أهله وكائناته جميعاً ؛ لجارتنا ، إبنة " عبده كَوتشي " ، المتوسّلة للجنديّ الشاك سلاحه ، رغبتها في تجاوز الخطوات الخمس ، الفاصلة بيتها عن بيت جارتها " زينه حوطيش " . غيبة رجل أسرتنا ، القسريّة ، إعتدناها في واقع الحال ؛ إعتيادنا للأناشيد القوميّة ، الزاعقة في طول وعرض بثّ الإذاعة المحليّة . إلى أن كان عصرُ ذلك اليوم ، الصيفيّ ، وفيه وجدتني قرب باب منزل " بديع ديركي " ، أناور ولداتي حول سيارته ، الجاثمة على أطرافها ، الأربعة ، وكما لو أنها هولة حارسة . " والدنا رجعَ ! " : هتفتْ إليّ أختي الكبيرة ، تدعوني إلى الإسراع في مرافقتها للمنزل . ثمة ، في أرض الديار ، كنتُ متردداً ، لابثاً على خجل ، في تطلعي ناحية نافذة الحجرة الكبيرة ؛ أين بدا الغائبُ متبسّماً ، متمعّناً فيّ بدوره .

للحكاية بقية ..

Dilor7@hotmai.com



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بابُ الحارَة ، الكرديّة
- فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية
- أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
- زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
- هذا الشبل
- زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
- يا نائب وَحِّد القائد
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2
- زهْرُ الصَبّار
- وداعاً ، إسكندرية كافافيس
- الأرمن والعنصرية اللبنانية


المزيد.....




- بعد نيله جائزة -برلمان كتاب البحر الأبيض المتوسط-.. الكاتب ا ...
- فيلم يسلط الضوء على انتهاكات كييف
- المتحف البريطاني يختار الفرنسية اللبنانية لينا غطمة لـ-أحد أ ...
- العربية في إيران.. لغة -أم- حية بين الذاكرة والتحديات
- فيديو.. متهم يهرب من نافذة المحكمة بطريقة سينمائية
- فيديو.. أول ظهور للفنانة المغربية دنيا بطمة بعد السجن
- سجلات الليدرشيت يشعل النقاش حول القيادة
- المخرج السوري هيثم حقي لـ CNN بالعربية: -لا نريد سوى سوريا ا ...
- بهية محمد.. زواج الفنانة اليمنية من مصري يثير جدلا يمنيا
- وزير الهجرة: التعددية الثقافية تثري السويد


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه